تأملات حول السينما والسياسة

براين دانيغان

ترجمة : حسين طالب 

ماهي الأوقات التي يكون فيها الحديث عن الأشجار جريمة تقريبا لأنها تعني الصمت على الكثير من الأخطاء.

برتولت بريشت

الفن والسياسة

تهتم السياسة بتوليد وتوزيع السلطة في المجتمع وكيف ننظم حياتنا الاجتماعية سوية: قضايا العدالة والمساواة، تنافس اليوتوبيا والأيديولوجيات ,البرامج والبيانات الرسمية. الحياة السياسية هي احدى المناورات والخدع والتظاهر والنقاشات: قتال من اجل موقع حقيقي , موقع التأثير والسيطرة العملية . القصص السياسية موجهة ومقنعة , تفتقر الى الغموض والرقة ، والعمل مأخوذ بالنتائج التي تؤثر مباشرة على الحياة اليومية. لذلك ,فالدافع الفني والسياسي غالبا ما ينظر اليه على انه يناقض احدهما الاخر . بالنسبة للكثيرين , فأن الفن لا يمكن ان يختزل الى البساطة القصصية فهو معقد وغامض وغني وليس له حاجة للتبريرات خارج نفسه ، لإرهاق أي عمل فني مع اجندة سياسية هو ان تستبدل جو شاعري وغني من اجل الخطابات والتموضع الأخلاقي . المرتبطون سياسياً بجهاتهم قد يحتقرون التحليق الفني للأسطورة والجمال كهروب من الحقائق التاريخية والاجتماعية وهناك أوقات واضحة للفن والسياسة لا يمكن فيها ان يكونا منفصلين فعلى سبيل المثال معسكرات الاعتقال و فن السكان الأصليين و العمل من قطاع غزة . لكن الفن كاستجمام خيالي للعالم يمكن ان يوجد في فن اكثر انكساراً سياسياً. كيف يكون غير ذلك؟ فكلاهما جانبان لرغبة أن تعرف وتعبر للارتباط بالواقع الإنساني وكلاهما يشكلان ويؤطران ضمن شبكة علاقات اقتصادية هي غالباً ما تئالف تأثيرهما.

السينما: الأيديولوجيا والتجارة

جسدت السينما السائدة التوتر بين الفن والسياسة والتجارة. وأصبحت الواقعية الدراماتيكية أو الفنتازيا الخيالية الأشكال السائدة في السرد السينمائي حيث نشأت من دافع وثائقي لاستكشاف العالم أو الرغبة في الهروب من وجوده الخانق ولكن مع ضرورة اجتذاب أكبر عدد ممكن من الجمهور. الفن من أجل الفن ولكن المال من أجل الله: كان هذا هو عالم المال والاعمال على كل حال. ومع ذلك، فقد شاركت السينما دوماً في السياسة بأوسع معاني القصص التي اختارت أن ترويها وكيف وتحمل جميع الروايات اثاراً طوباوية للحكاية الشعبية ـ الأمل والتحرر والعدالة – جوهر الجدل السياسي من خلال ما تعرضه لنا عن كيف كان العالم قد أعطى الناس أفكارًا حول الكيفية التي يمكن أن يكون بها أفضل على الرغم من أن التلاعب الأيديولوجي باستجابة الجمهور لم يكن بعيداً ابداً. السرد التعويضي ( Redemptive narrative ) هو شكل من أشكال الفن المغري والبلاغي، خاصة أنه تطور في هوليوود من عشرينيات القرن العشرين على شكل قصة خيالية حديثة مع نهايات سعيدة وتركيز على الترفيه. لقد أدركت النخب السياسية والمالية الأمريكية قيمة الدعاية للأفلام منذ وقت مبكر وقد لعب نجاح أفلام هوليوود في جميع أنحاء العالم دوراً كبيراً في فتح الأسواق أمام التجارة الأمريكية ولقد دفع النجاح الهائل لهذا النموذج وأمركة الثقافة العالمية الطرق الاخرى لرواية القصص والسينما الأخرى ووجهات النظر إلى الهامش. تهيمن الأفلام الأمريكية على السوق وهي التي تشكل الاحتياجات والرغبات وشعورنا بالذات وتسهم إسهاماً كبيراً في عالم الخيال والموضة. في هذا اللامكان من الدراما الوثائقية والبحث عن المتعة المخصصة , فأن الأفلام بالمحتوى التوعوي السياسي تصنع قلقنا : بمنحنا المحاولة الأخرى لعبور الحدود الى الحياة الجيدة أو الفوضى المعممة وعنف المحرومين من الحقوق . السياسة أصبحت غير عصرية والسياسيون يشار لهم في أحسن الأحوال باللامبالاة المتهكمة ورغم ذلك هناك بقايا جوع لدى العديد من الناس لتجاوز قصص العالم المتوسط ومجابهة القضايا التي تحلها فقط سياسة مطلعة. في السنوات الأخيرة كان هناك جمهور كبير لمشاهدة الأفلام التي تستخدم القصة المثيرة والميلودراما لتحدي وكشف فساد قوة الشركات ( The insider ) أو الشكل الوثائقي الذي يفضح نفاق حيازة الأسلحة في الولايات المتحدة.

كين لوتش: الحرب الطبقية

هناك العديد من صانعي الأفلام الذين يعملون في كل من الميزات حول العالم الذين يسعون جاهدين للمشاركة بشكل مباشر أو مبدع مع قضايا سياسية محددة والعثور باستمرار على الجماهير. كان المخرج البريطاني كين لوتش الاكثر نجاحاً واستمراراً.في أفلامه مثل Riff-Raff )) 1991 و (Raining Stones) 1993 و (Sweet Sixteen) 2002 ’ يكشف فيها عن استمرار وجود أولئك الذين استغلتهم الطبقة السياسية بعد ان تجاهلتهم: عالم الطبقة العاملة حيث تقوض آمال الناس في المساواة والعدالة في العمل وفي المنزل وفي المجتمع على الرغم من أن رواياته غالباً ما تكون مبنية حول شخصية فردية، إلا أنه يهتم دوماً بتوجيه السياق الاجتماعي والسياسي لحياة الناس فضلاً عن أهمية العمل الجماعي والطقوس المشتركة في مواجهة النظام الاقتصادي المتزايد في قساوته و فوضويته. إن أسلوبه الطبيعي القائم على الملاحظة يضحي بالجمالية لصالح نقد اجتماعي معلن وجده البعض مصمماً. الروايات في أفلامه على سبيل المثال غالباً ما ترفض إغراء النهاية السعيدة ويتم ترك المجتمع للتفكير في مسؤوليته وحاجته إلى التغيير.يعترف لوتش أن شخصياته مجبرة في بعض الأحيان على التوفيق بين فكرة ما وبين أنه متواضع بتأثير أفلامه على تغيير مواقف الناس ولكن أفضل أعماله هو من خلال دس العالم الواسع في الشخصية والدرامية، وهو رد فعل فعال على النقاد القائلين بان الفن والسياسة يتواجدان في عوالم متوازية.

النظام العالمي الجديد: سياسات العولمة

قد يكون النقد الأكثر صلة بعمل لوش هو أن العالم المثالي لمنظمة التضامن والطبقة العاملة التي يصورها في أفلامه قد تغير خارج كل تقدير. الجدل هو أن النقابات العمالية وغيرها من أشكال العمل الجماعي والهوية قد تم تجويفها وجعلها غير فعالة من خلال نظام اقتصادي عالمي جديد يتجاوز الحدود المحلية والوطنية: فقد خلق تحرير التجارة من القوانين والخصخصة عالماً من الضوء ورأس مال متنقلاً وغير آمن وتجزئة لقوة العمل.

بيَّن عالِم الاجتماع الفرنسي بيير بوردو كيف أدت هذه العلاقة غير الآمنة والأقل توقعاً بين رأس المال وقوة العمل على العقود قصيرة الأجل إلى كسر التضامن واضمحلال النضال والمشاركة السياسية وأدى التحول من التصنيع إلى الاقتصاد القائم على الخدمات وعالم الكمبيوتر الذي تم تسريعه إلى تعزيز ثقافة فردية موجهة نحو المستهلك، وساهم في تحول جذري في وعي الناس. في مجتمع يشتت الانتباه و يعيش هوس التسوق من المولات تصبح الفنتازيا والموضة والسفر وخلق الهويات الفردية أكثر أهمية من أي شيء آخر بما فيها المشاركة الجماعية أو العمل سواء كان ضمن العائلة أو الجماعة. في هذا العالم الجديد فقد العمل دوره المركزي وفقد المعنى والشعور بالانتماء والهوية المستقرة. (ومن ثم الاهتمام المتزايد في علم الأنساب وبرامج التلفزيون التاريخية الخفيفة التي تقدم حساً افتراضياً للجذور). أن التأثير المتنامي لوسائل إعلام ما بعد وطنية بتشكيل رؤيتنا للعالم ساهم في شعور القلق الكامن: الحرب كترفيه وثقافة الشهرة وواقعية التلفزيون هي كلها جزء من عدم تسيس الواقع.

الأفلام طبعا هي مجرد مادة مسلعة في هذه الاربع والعشرين ساعة إذ تتدفق الصور ولا يبدو أن هناك مركزاً : اختفت السلطة جنباً الى جنب الحقائق القديمة حول العدالة والمساواة.

الحداثة السائلة

أن فيلماً مثل فيلم Time Out (2002) لـ (لوران كانتيه ) يعكس العالم الجديد من منظور طبقي . فنسنت هو مستشار مالي، وهو عضو في النخبة المتنقلة المدججة بالهواتف النقالة والكمبيوتر المحمول أولئك الذين ينسقون التدفقات المالية لرأس المال والاستثمار التي تساعد على خلق هذا الواقع المحموم الجديد. عندما نلتقي به لأول مرة، يسافر إلى غير أماكن الطريق السريع الأوروبي، ويتصل بالمنزل مثل ET (اسم المخلوق الفضائي في فيلم ET الذي ضل طريقه الى الأرض) -المترجم – من ظلام سيارته بعائلته الغريبة. نحن فقط ندرك أنه في الواقع فقد وظيفته وتعرض لنوع من الانهيار الذي لا يستطيع أن يعترف به هو أو زوجته. يخترع وظيفة خيالية مع الأمم المتحدة في الوقت الذي يحاول فيه خداعاً قصيراً ينطوي على أخذ المال من الأصدقاء الذين يعتقدون أنه يستخدم موقعه في الأمم المتحدة لتحقيق أرباح غير مشروعة ويسعدهم أن يسيروا معه. في الواقع، أن فينسنت رجل فقد أي اهتمام بعمله، يشعر بالسعادة عندما يقود السيارة بمفرده ويستمع إلى الموسيقى. ذلك كان سبب لماذا خسارته لوظيفته فهو غير قادر على إجادة اللعبة وتحقيق الأهداف وما يعاني منه الآن من عواقب العيش في ثقافة يقع فيها ثمن الفشل على الفرد. عندما يزداد الضغط من زوجته وعائلته يصبح الخيال أكثر تفصيلاً. يتخيل نفسه جزءاً من مجموعة التمويل التي ستساعد على فتح البلدان الأفريقية للاستثمار الأجنبي وبالتالي سيكون مستقبل أفضل. إنها واحدة من العديد من المفارقات التي لا يرى فينسنت، على عكس والده الأكثر حنكة، أن هذا هو ببساطة الخيال الإيديولوجي لثقافة الشركات الفاسدة التي لن تواجه حقيقة تصرفاتها الأنانية تماماً مثل فنسنت وأصدقائه. الاهتمام بكسر الهوية، واعتزال العائلة البيولوجية وخيانة الأصدقاء مقابل المال الذي يدور حوله كل شيء، وأهمية الخيال، والشعور الساحق بالعزلة والدوافع اللانهائية من خلال مشهد مابعد الحداثة للامكان , والأفريقية الأخرى التي تم إخفاؤها في كتيب استثماري لامع – كل هذه المواضيع والعناصر تجعل فيلم (Time Out) أقرب إلى إلقاء الضوء على الآثار النفسية والجذور الاجتماعية لعالمنا الذي تم خصخصته، وبذلك تجعلنا نفكر في السياسة الكامنة وراء خلق هذا العالم.

نهاية السياسة

لأنه أحد الإنجازات الرئيسية لعالم العولمة الجديد أن السياسة كجدل حول الوسائل والأهداف و حول كيف نعيش ونعمل معا على هذا الكوكب يبدو أنه قد اختفى. يتم عرض عولمة السوق الحرة على أنها أمر حتمي ومفيد للجميع، ذلك يجب أن يكون من الصواب مهاجمة أو إضعاف أي منظمة أو مؤسسة أو حتى دولة قد تقلل من كفاءة السوق. أن هذا الادعاء بالحتمية يضع السياسات النيو-ليبرالية فوق السياسة ويضعف أي خطاب سياسي وثقافة مدنية : ليس لدى الناس العاديين خيار سوى مشاركة المخاطر والأعباء (خفض الرفاه، أمن العمل، المعاشات) في الدفع لتحقيق أرباح أكبر وأكبر. لكن بالطبع هناك خيار: إلى أي مدى نريد استعادة السيطرة على حياتنا وتاريخنا، واستخدام اللغة ووسائل الإعلام التي عرقلتها المنظمات غير الحكومية والشركات العابرة للوطنية غير المنتخبة. لا تزال الأصوات التقدمية والمليئة بالتحديات تتفجر حول قضايا الحرب والفقر والبيئة والرعاية الصحية والتعليم والهجرة وصانعي الأفلام يلعبون دوراً في تمثيل هذه الأصوات وفي سرد قصص تكشف عن الأيديولوجية التي تقف وراء النظام الاقتصادي الجديد. فالترفيه والتعليم ليسا بالضرورة متنافيين.

الشخصية سياسية

يقدم فيلم ألماني بعنوان 2003 (Goodbye Lenin) طريقة أخرى يمكن من خلالها تمثيل السياسة من خلال الفكاهة. هذا الخيال العكسي للألمان الغربيين الذين تعبوا من النزعة الاستهلاكية والرأسمالية يتدفقون على الجدار للاستمتاع بثمار اشتراكية أكثر مجتمعية في توجهها، يلامسونه لتذكيرهم بطريقة أقل جشعًا للحياة، قيمة ثقافة مدنية نابضة بالحياة وانهيار مفاجئ غير متوقع للسلطة. وبهذه الطريقة، سواء من خلال الإغراءات الميلودرامية في هوليوود، أو سياسة كين لوخ العلنية ، أو التأملات الوجودية للسينما الفنية ، يستمر الفيلم في لعب الاحتمالات الأخرى لكونه في العالم : الوفرة والنعم العميقة للإنسان. القدرة والإبداع والرغبة والحب والمعنى خارج مصفوفة التسوق والاستهلاك. تساهم السينما العالمية في نقاش ينشأ من تجربة حياة الناس وقيمهم في هذا العصر الجديد وهو نقاش يتضمن تحديات على عدة جبهات لرأسمالية عالمية أحادية الجانب. لا يوجد انقسام واضح بين الفن والسياسة – فقط ما تريد أن تقوله وكيف تقوله: ما هو وماذا يكون – أن تكون إنساناً. ما هو وماذا يمكن أن يكون -أن تكون إنسانًا. وبهذا المعنى، فإن الشخصية هي السرد السياسي والسينمائي الذي ينبغي أن يكون موقعاً للحلم والرغبة في جعل اللاوعي السياسي أكثر وضوحاً-مما يشجعنا على التفكير بالإضافة إلى الشعور.

 

ترجمة : حسين طالب