حقيقة كون سنوات الطاعون هي الأكثر انتاجية بالنسبة لإسحاق نيوتن

 

 

في الخامس والعشرين من تموز سنة ١٦٦٥ وجد الطفل جون مورليJohn Morley ميتًا في بيته في إحدى أبرشيات هولي ترنتيHoly Trinity في كامبرج إنجلترا. عندما قام مسؤولو المدينة بمعاينة جثة الطفل لحظوا وجود بقع سوداء على صدره وكانت تلك البقع تعود بوضوح للطاعون الدملي Bubonic Plague. ففي تلك السنة كان الطفل مولي حالة الوفاة الأولى التي تم تسجيلها بسبب المرض في كامبرج وهذه كانت إشارة بأن تفشي المرض في لندن في ذلك الربيع قد وصل الى البلدة.

فورًا هرع الناس الى حجر أنفسهم في الريف وأحدهم كان باحث شاب من Trinity College يدعى إسحاق نيوتن Issac Newton. كان منزل نيوتن في مزرعة تدعى وولسثورب Woolsthorpe والتي تبعد حوالي ستين ميلاً شمال الجامعة. وهذه المزرعة كانت بعيدة بشكل مناسب عن أقرب بلدة وهناك كان في عزلة تامة إذ تمكن من اختراع علم التكامل والتفاضل ووضع قوانين علم الحركة واكتشف الجاذبية وغيرهم الكثير. ومما ساعد على تكوين العلم الحديث هي الظروف المثالية التي خلقها الطاعون وهكذا تستمر القصة.

ومع انتشار فايروس كورونا والذي فرض عزلته، اليوم توصف السنة المعجزة التي قضاها نيوتن على أنها المثال الذي يجب أن يحتذى به. فهناك مقالة مبهجة في صحيفة الواشنطن بوست Washington Post يمكن عدها مثال على المقالات التي تنتشر على الأنترنت في هذه الأيام، أما وسائل التواصل الاجتماعي فأنها بطبيعة الحال كانت متزمته أكثر بالقول “لو أردت العمل أو الدراسة من المنزل في الأسابيع القليلة القادمة فربما عليك تذكر المثال الذي ضربه نيوتن”.

أكتب تلك الرواية أو تلك المسرحية ولو لم تفعل أي من ذلك فعلى الأقل ركز على حياتك وحاول تحديد أهدافك. ولو لم تفعل أي منهم فهذا يعني أنك فشلت في إختبار الوباء المنزلي. فنيوتن استطاع تحريك الكون. فلما لا نستطيع ترتيب خزانة ملابسنا؟

 

الأن لا أحد منا ولا أي شخص آخر في كل التاريخ البشري يستطيع الوصول إلى المستوى نفسه من الإنجازات التي حققها نيوتن. ولكن بشكل عميق أكثر فإن فكرة أن الطاعون قد أيقظ ذكاء نيوتن هي فكرة خاطئة ومضللة، يتم استخدامها مقياسا عن ( كيف يمكن لنا أن نتصرف خلال ربيعنا الطاعوني هذا). كذلك فأن عنصر التفاحة التي سقطت على رأسه يمثل جزء من المشكلة. حقاً كانت هناك شجرة تفاح مقابل الشارع حيث يطل مدخل منزل نيوتن وإلى الآن لايزال هناك بستان تفاح.

 

هذه القصة رواها نيوتن بنفسه في وقت متأخر من حياته وبين بأنه بينما كان يتأمل الشجرة في أحد الأيام عندما أدرك بأن القمر في مداره والتفاحة في غصنها كانا يخضعن للقوى نفسها في الطبيعة. ومن السهل جداً الزحف من ذاكرة الرجل العجوز إلى فكرة أن هدوء الريف قاد الى ولادة ميادين معرفة جديدة تماماً. وهذه القصة العبقرية الخيالية المشهورة والتي تبين أن الأفكار العظيمة لا تحتاج عمل مضني من الاهتمام المستمر وتفكير عميق وأنها تأتي على شكل برق من الإلهام والذي بدوره لا يأتي إلا في المواقف المناسبة مثل العزلة الإجبارية خلال الأوبئة.

كل ما ذكر كان صحيح فخلال ما يقارب السنتين التي قضاها في المزرعة حقق نيوتن عدد من النتائج الاستثنائية التي يصعب تصديقها فقد حقق انجازات في مجالات مهمة في الرياضيات والذي أصبح في ما بعد علم التفاضل والتكامل أو رياضيات التغير كما يطلق عليه وفي علم الهندسة التحليلية. وقد أسهم أيضاً بخلق فيزياء جديدة مستخدماً أكتشافاته في الرياضيات لتحليل الحركة خلال المكان والزمان.

وقد قام أيضاً بالعديد من التجارب لقياس قوة سحب الجاذبية ومن ثم بدأ بتشكيل فكرته الأكثر شهرة: الجاذبية الكونية وهي النظرية التي ستربط كل شيء في الكون مع رحلة سقوط التفاحة من الغصن الى الأرض. وقام بغرس أبرة في عينة كجزء من رحلة البحث لفهم كيف يعمل الضوء والعدسة. وحقق كل هذه الأنجازات بينما كان منعزلاً في مزرعة في لنكولنشاير Lincolnshire.
ولكن الشيء اللافت للنظر هي الفكرة القائلة بأن نيوتن أطلق العنان لتفكيره على تلك المشاكل مباشرة بعد أن أعطاه الطاعون فرصة البقاء وحيداً.

وكما وثق بدقة كاتب سيرته ريتشارد ويسفول Richard Westfall في كتابه “Never at Rest” فأن نيوتن قد بدأ التفكير عن الأسئلة الأكثر إلحاحًا في العلم عندما كان يستعد لامتحاناته في غرفته في كلية ترنتي Trinity College في السنة التي سبقت ظهور الطاعون. وهناك مستند كتبه نيوتن بنفسه يسجل المشاكل التي يريد أن يجد حلولاً لها ومن ضمن هذه المشاكل، كما بين وستفول Westfall، كانت المادة والمكان والزمان والحركة… النظام الكوني وثم… الضوء والألوان والرؤية” وتستمر القائمة لتشمل أسئلة سيعمل نيوتن على حلها في العقدين القادمين.

أما سنه ١٦٦٤ والتي سبقت الطاعون فهي السنة التي بدأ نيوتن التفكير بعمق في الرياضيات واكتشف أن لديه قدرة فائقة على التفكير المجرد والذي ازدهر عندما وصل إلى منزله الريفي. وقد شرع في معالجة مشاكل رئيسية والتي قادته الى اكتشاف علم التكامل والتفاضل في خريف وشتاء ذالك العام وفي الوقت نفسه كان متقدمًا نحو اختراع طريقة جديدة في علم الهندسة وكل هذه الانجازات تحققت قبل شهر من تركه كامبرج.

 

وبالمثل عندما انتهى الوباء في سنة ١٦٦٦ حافظ نيوتن على القيام بأنواع الأعمال نفسها عندما رجع لغرفته في Trinity’s Great Gate. وقد ساعدت تجاربه على الموشور في أواخر ستينيات القرن السابع عشر على كتشاف أن الضوء الأبيض هو في الحقيقة مكون من الألوان المميزة لقوس قزح. وقد استمر نيوتن بإحداث تغير جذري بعلم الهندسة فقد قام بتطوير نظريته على الجاذبية بشكل متقطع قبل أن يدركها بشكل كامل في ثمانينيات القرن السابع عشر.
وبغض النظر عن الشيء الذي ساعد نيوتن على إنتاج هكذا أعمال عبقرية عظيمة أثناء وقبل وبعد العزلة الأجبارية ولكن الأنعزال في الريف لم يكن نقطة التحول وقد صرح نيوتن بنفسه على ذلك فعندما سأل نيوتن كيف استطاع الوصول الى مبدأ الجاذبية، أجاب قائلاً “بالتفكير فيها باستمرار.”
ولكن الشيء المهم كان القيام بالعمل نفسه وقد قام نيوتن بهذا العمل بينما كان طالبا في كامبرج قبل الطاعون وقد أصر على ذلك عندما كان في وولسثورب وأستمر به بعد أن عاد الى الكلية. وبعد مدة متأخرة كتب مشيراً الى سنوات الطاعون بأنه كان في “أوج العمر المناسب للاختراع والتفكير الرياضياتي والفلسفة أكثر من أي عمر آخر بعدها.” وهذا العمر استمر على الأقل لما يقارب نصف عقد من الزمان.
وأن نيوتن استطاع القيام بما قام به ليس بسبب المكان الذي وجد نفسه فيه خلال الطاعون وإنما بسبب كيف كان هو— واحد من أعظم علماء الرياضيات وفلاسفة الطبيعية على الإطلاق والذي لم يقم بأي شيء عدا التفكير والنقد والحساب لعدة سنوات.
وفي مقابل ذلك التأريخ، اخبر نفسك وأنت تحجر نفسك في مكان ما بأنه الوقت المناسب لمحاكاة طموح نيوتن فهذا شيء غير مفيداً جداً ولكن ليس بسبب أن طموحه معيار مستحيل الوصول اليه (بالرغم من أنه فعلًا مستحيل) ولكن الدرس الحقيقي هو أن تتذكر أي جزء من حياتك هو الذي أطلق شرارة شغفك قبل هذه الفوضى وأن تحافظ على هذه الشرارة الآن.
____

ترجمة : ثناء سليمان
تدقيق : علي محمد
نشر وتعديل الصورة : فرات جمال
المصدر : هنا