الإرهاصات الأولى للتفكيكية في فرنسا

الإرهاصات الأولى للتفكيكية في فرنسا

 

“التفكيك ليس نظرية أو منهجاً وليس مذهباً هرمينوطيقيا بالقطع . بل يمكن تسميته_ مؤقتاً_ إستراتيجية للنص، وحتى نكون أكثر دقة ، إنه ممارسة وليس نظرية(1) “

جاك دريدا

         لقد شهدت الساحة النقدية الفرنسية مع منتصف ستينات القرن الماضي حركة نقدية جديدة اتسمت بالثورة والتمرد على كل ما هو مألوف من تقاليد فكرية سابقة، وقد تمثلت هذه الحركة في مشروع قراءة جديدة تنظر للنص أي نص كان بوصفه كتلة صماء، لابدّ من تفجيرها من الداخل من أجل الكشف عن جوهرها ، قراءة مؤجلة يستطيع القارئ بموجبها شحن اللغة بما لا نهاية من المعاني والدلالات، قراءة حفرية تعمل على النبش في الخطابات بهدف خلخلتها(2). والحقيقة أن هذه الحركة المعرفية الجديدة التي سميت ب(ما بعد البنيوية Post Structuraliseme ) قد قامت أنقاض البنيوية وليست قطيعة في مسارها البنيوي،” إنما هي في أقصى تقدير نقطة انعطاف _بالمفهوم الرياضي_ في منحى الدالة البنيوية، تعبر عن مراجعة البنيوية لنفسها وتأملها في مسار تطورها. وإذا تراءى ذلك للبعض بأنه انقلاب ما بعد البنيوية على البنيوية، إلا أن الذي حصل أن ممثلي ما بعد البنيوية هم بنيويون اكتشفوا خطأ طرائقهم على نحو مفاجئ، وليس أدل على هذا من أن زعيم التفكيكية نفسه جاك دريدا  لا  يرعوي عن إعلان أن النقد الأدبي بنيوي في كل عصر(3) “، كما يذهب كريستوفونوريس إلى أن التفكيكية هي رد فعل تجاه البنيوية للتخفيف من انتشارها، ذلك أن التفكيكية خرجت عن عباءة البنيوية، وهو رأي يحدده ويقرره عبد العزيز حمودة حين يتحدث عن العلاقة بين التفكيكية والبنيوية؛ لإظهار طبيعة المفارقة الفريدة في تاريخ النقد الأدبي بين الاثنين بقوله :” إن التفكيكين الأوروبيين والأمريكيين على السواء، خرجوا من عباءة البنيوية(4) “، إذ نلاحظ أن عبد العزيز حمودة لا يستخدم هذا القول بمعناه المجازي؛ ليشير إلى علاقة أو علاقات وثيقة بين المنظورين لكنه في حقيقة الأمر يحمل معنى حرفياً وليس مجازياً، فالتفكيكيون فعلاً خرجوا من عباءة البنيوية؛ لأن غالبيتهم بدؤوا حياتهم كبنيويين ثم سرعان ما تحولوا عنها بعد أن فشلت البنيوية في تحقيق طموحاتهم، وعليه تحول الكثير منهم من أمثال (لاكان) إلى مجال التحليل النفسي و (دريدا) إلى فلسفة اللغة و(رولان بارت) الذي تحول في مرحلته الثانية إلى التفكيكية بعد أن خاب أمله في المشروع البنيوي منذ أواخر الستينات .

وتمثل فرنسا المهد الأول للتفكيكية، ومن أقوى الدوافع والأسباب التي ساعدت بلد كفرنسا على تبني هذا المشروع النقدي الضخم، تلك المحافظة التي تتميز بها الذهنية الفرنسية ولفترة طويلة، فجاءت التفكيكية كردة فعل على هذه الأخيرة، وقامت برفض كل المذاهب السابقة لها، إذ تذهب التفكيكية إلى أن كل قراءة هي قراءة مزدوجة تسعى إلى دراسة أي نص دراسة تقليدية بالأول لإثبات معانيه الصريحة، ثم بعد ذلك تقوم بتقويضه في قراءة معاكسة تعتمد على ما ينطوي عليه النص من معانٍ تتناقض مع ما يصرح به . أي أنها قراءة تهدف إلى إيجاد شرخ بين ما يصرّح به النص وما يخفيه. فهي قراءة تقوم بقلب كل ما كان سائداً في الفلسفة الماورائية سواء كان معنى ثابت أو حقيقة أو هوية أو الذات المتوحدة ..إلخ(5) ؛ ونتيجة لذلك ظهرت العديد من المقولات التفكيكية من أمثال(غياب مراكز الإحالة المعرفية) و(الاختلاف والتأجيل) و(انتشار المعنى) و(لانهائية الدلالة) و(كل قراءة هي إساءة قراءة) و(اللعب الحر للدوال)…إلخ. ونظراً لما جاءت به التفكيكية من الدعوة و المناداة بالتعدد اللانهائي لتفسير النص، رفضت الذهنية الفرنسية ما دعت إليه التفكيكية بسبب التحفظ التي تمتاز به، وهكذا “هاجر التفكيكيون الجدد وعلى رأسهم جاك دريدا إلى مناخ ثقافي مختلف، يقوم على التعددية الثقافية ويحتفي بها، ونقصد به المناخ الثقافي الأمريكي. وقد احتفت أمريكا بالمهاجرين الجدد ورحبت جامعاتها بالتفكيك، بل إنها سرعان ما أفرزت هي مدرستها التفكيكية التي تعدّ امتداداً للمدرسة الفرنسية وتطويراً جوهرياً لها. ومدرسة يال النقدية (Yale) والتي تضم ميللر وهارتمان وبول دي مان وبلوم شاهد حي على ذلك، وقد ضرب التفكيك في عمق التربة الثقافية الأمريكية إلى درجة نسينا معها جذوره الفرنسية وأصبحنا نتحدث عنه بعدّها مدرسة أمريكية(6) “.ومن أهم العوامل التي ساعدت على تقبل المناخ الأمريكي للتفكيكية وسرعة انتشارها وتمركزها هناك، هو أن التفكيكية “ظهرت في الولايات المتحدة في مناخ عدم الرضا على الوضع الذي كان سائداً آنذاك، فمع خروج النقد الجديد من الساحة في النصف الثاني من الخمسينيات والمقاومة القومية لتيار البنيوية بتركيبتها التي ركزت على قهر الذات، ذات المبدع و المتلقي، وذلك بإحلال اللغة كقوة قهر جبرية جديدة محل العقل، سادت الأوساط النقدية حالة من الجمود من ناحية، وعدم الرضا وتوقع الجديد من ناحية أخرى. وكانت التفكيكية هي الإجابة والمخرج. وهكذا انتشرت الأفكار التفكيكية بسرعة لم تتحقق لأي مشروع نقدي سابق”.

تحرير: آلاء دياب

المصادر والمراجع:

(1) حمودة، عبد العزيز_ المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، د.ط، 1998م: 309. نقلاً عن :

Irene Harvey ,The Wellspring of Deconstruction ,in Tracing Literary Theory.p139 Art Berman ,Form The New Criticism to Deconstruction,p220

(2) انظر تفصيل ذلك:  تاوريريت، بشير _التفكيكية في الخطاب النقدي المعاصر ، دراسة في الأصول والملامح والإشكالات النظرية والتطبيقية، دار الفجر للطباعة والنشر، الجزائر، الطبعة الأولى، 2006م:11

(3)  وغليسي، يوسف _مناهج النقد الأدبي، دار جسور للنشر والتوزيع، الجزائر، الطبعة الأولى، 2007م:168-169

(4) حمودة، عبد العزيز_ المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، د.ط، 1998م: 317

(5) انظر : الرويلي، ميجان- البازعي، سعد_ دليل الناقد الأدبي إضاءة لأكثر من سبعين تيار ومصطلحاً نقدياً معاصراً ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة، 2002م:108

(6)حمودة، عبد العزيز_ المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك: 166.