الخطوط الكبرى لفلسفة الأنوار بين إيمانويل كانط و فوكو

الخطوط الكبرى لفلسفة الأنوار بين إيمانويل كانط و فوكو

إذا كان ديكارت يدعونا إلى تحرير عقولنا ممَّا علّق بها من أوهام، وإذا كان يعدنا إن نحن فعلنا ذلك بالوصول إلى الحقيقة كاملة، فإنّ كانط يدعونا إلى نقد عقولنا ومعرفة المبادئ التي تقوم عليها أحكامنا حقيقةً إنّ نزعة كانط ماهي في نهاية الأمر سوى ديكارتية مفتوحة، ديكارتية نقدية؛ لنتوصل في نهاية الأمر إلى حقائق (امتلاك الحقيقة) وقد سميت فلسفة كانط، بالفلسفة النقدية؛ لأنَّها تقوم على نقد العقل (1).

من هنا كانت المشاكل المرتبطة بالنظرية هي مشكلات مرتبطة أولاً بالعقل الذي ينتج هذه النظرية، وهي مشكلات تاريخية وسياسية، كما اقترح فوكو حين قال إنّ: ” القضية المركزية للفلسفة والفكر النقدي منذ القرن الثامن عشر كانت حول أسئلة تمثلت في: ما هو هذا العقل الذي نستخدمه؟ ما هي مفاعيله وآثاره التاريخية؟ ما هي حدوده، والمخاطر التي يؤدي إليها؟ وإذ كان للفلسفة وظيفة داخل الفكر النقدي، فإنّ مهمة هذه الوظيفة أن تقبل هذا الباب الدوار للعقلانية الذي يحيلنا إلى ضرورتها ولزوميتها، و مخاطرها في الوقت نفسه (2) ” . طبعاً، الظرف السياسي والتاريخي للعقل ليس واحداً على الأقل، هناك سياسات وتاريخانيات تعيق وجود عقل ذي ظرف بصيغة المفرد، أي على مستوى الممارسة وطريقة إنتاج المعرفة،  العقل دائماً متحيز أو موقعي، ينتمي إلى جهة معينة داخل هذا العالم . وجهة العقل لا تؤثر في العقل بقدر تأثيره هو فيها، فالعقل هو الذي ينشئ الجهة، بمعنى أنّ هذا الجهة نتيجة للمسعى الخطابي الذي يسلكه. وما الذي يشكل العقل إذن ؟ هي أيضاً  الخطابات (3) التي أنتجها هذا العقل في حد ذاته. استخدام العقل يعدُّ بمثابة شرعنة له؛ لذلك وصف كانط التنوير باللحظة التي بدأت فيها الإنسانية بوضع عقلها تحت الاستخدام دون الخضوع لأيّ سلطة. ويزودنا كانط، كما يرى فوكو، من خلال هذا الوصف بالظرف التاريخي الذي تمّ من خلاله استخدام العقل من أجل المعرفة والفعل أو ما يمكن أن يُطمح إليه داخل هذا العالم، فالاستخدامات غير الشرعية، أدت إلى الوقوع في (الدوغمائية (4) Dogma) والتبعية والوهم، أما الاستخدامات الشرعية فقد حدّدت ضمن مبادئ واضحة وهي أنّ استقلالية العقل ستكون مضمونة؛ لذا كانت ممارسة النقد هي ما ميز عصر التنوير(5).

هناك طريقة أخرى للتمييز بين استخدامات العقل عند كانط يدعوها بالاستخدام الخاص والاستخدام العمومي، والتنوير بوصفه نوعاً من استخدام العقل يعدُّ استعمالاً عمومياً، أي يجب أن يكون العقل في هذا الاستخدام حرّاً بينما يكون مقيداً في الاستخدام الخاص، الذي يتميز بأنّه ذو شرط ظرفي، ما يميز الاستخدام العمومي عن الاستعمال الخاص (6) أيضاً كما يرى فوكو ، أنّ ” المرء متى أدرك أنّه عاقل (وليس مجرد ترس في مكينة )، أو بوصفه عضواً من أعضاء الإنسانية العاقلة، حينها فقط يجب أن يكون استعمال العقل حرَّاً وعمومياً. وبالتالي فالتنوير ليس مجرد سيرورة يتطلع الأفراد من خلالها لرؤية حريتهم الفكرية الشخصية مضمونة. بل التنوير أن تكون استخدامات العقل الحرة والكونية والعمومية متداخلة بعضها في بعض (7) ” ، يبدو أن التنوير يتخلله مشكل سياسي، كيف ذلك؟ سنطرح السؤال الذي طرحه فوكو حين قال: ” كيف يمكن للاستخدام العمومي للعقل أن يكون مؤمناً؟  والإجابة هي أنّ ” التنوير لا يجب أن يفهم بوصفه سيرورة عامة أثرت في الإنسانية، بل ينبغي أن يدرك باعتباره إلزامية فرضت على الأفراد، وهذا ما يجعله يتبدى بمثابة مشكل سياسي (8) “. معنى هذا أنَّ الصورة الإبستمولوجية للتنوير من حيث هو ممارسة للمعرفة مورطة في عمليات السلطة، واستخدامات العقل العمومية والحرة والكونية مشبعة بهذه العلاقات الناتجة عن عمل المؤسسات أو الحاجيات المرتبطة بعمليات التنظيم الاجتماعي ؛ لذلك سنجد فوكو (9) دائماً يؤكد هذه الحقيقة : حقيقة أنّ السلطة أو ما هو سياسي عموماً يفرض نفسه باستمرار ضمن نظام الأشياء.

تحرير : آلاء دياب

الحواشي:

  • أحمد عبد الحليم عطية، كانط وأنطولوجيا العصر، الفكر المعاصر، سلسلة أوراق فلسفية،2010م، الطبعة الأولى، دار الفارابي:56
  • Michel, (1984) What Is Englightenment ? In Rabinow, Paul.(ed) The Foucault Reader ; Pantheon Books ;New York.P.38
  • Ibid,p:38
  • (الدوغما،(العقيدة – المعتقد) Dogma) : المبدأ الذي يتمسك به صاحبه ويؤمن بصوابه دون الاستناد إلى دليل، ويقال (العقدياتDogmatics )، فرع من علم اللاهوت يهدف إلى تفسير عقائد دين ما، و(اليقينية الجزمية Dogmatism) مذهب من يؤمن بقدرته على إدراك الحقيقة ، فيتصلب بالرأي ويقطع به بدون مناقشة أو تفكير ، كذلك يدل على وجهة نظر مبنية على مقدمات غير ممحصة تمحيصاً وافياً .انظر: الدكتور عبد الوهاب المسيري_ الدكتور فتحي التريكي، الحداثة و ما بعد الحداثة: 350.
  •   Michel, Foucault.(1984) What Is Englightenment :38
  • المفكرة السياسية الألمانية (حنة آرنت( Hannah Arendt، ترى أن مشكلة الحداثة تكمن في توسيع مجال الخاص على حساب العمومي: في كتابها )الظرف الإنسانيThe Human Condition ( ، ميزت أرنت بين نوعين من الفعل، الخاص و العمومي، فالخاص مجاله العائلة، والعمومي مجاله المشاركة في الحياة السياسية: انظر:
  • Arendt, (1958).The Human Condition ,Chicago :University of Chicago Press.p:38.
  •  Michel, Foucault.(1984) What Is Englightenment :37
  •  Michel, Foucault.(1984) What Is Englightenment :37