ما مدى عقلانيتنا؟

لطالما سمعنا ان الانسان كائن عاقل ولكن هل ذلك صحيح؟ واذا كان صحيح فما مدى عقلانية الانسان؟

في برنامج العاب العقل قاموا باعطاء كل متطوع عشر دولارات وسألوهم فيما اذا كانوا يودون المراهنة بهذه العشر دولارات من اجل مضاعفة المبلغ. وكانت النتيجة ان معظم المتطوعين اختاروا ان يحتفظون بالمبلغ ولايراهنون عليه وذلك من اجل تجنب احتمالية الخسارة طبعًا.

وفي تجربة اخرى قدموا لكل متطوع 20$ ثم اتى شخص ليأخذ من كل متطوع 10$ وثم خيروا المتطوعين فيما اذا كان يودون ان يراهنون بالمبلغ الذي لديهم ليستعيدون العشر دولارات خاصتهم او ان يحتفضون بالمبلغ. وكانت النتيجة ان اغلب المتطوعين في هذه التجربة اختاروا المخاطرة بالعشر دولارات التي لديهم. على عكس المتطوعين بالتجربة الاولى رغم انه في كلا الحالتين المخاطرة بالعشر دولارت تقدم نفس الاحتماليات من الخسارة والربح.

ما حدث هو إننا في التجربة الثانية حفزنا غريزة الخوف من الخسارة لدى المتطوعين عندما اخذنا عشر دولارات منهم. حيث وجدت الدراسات ان الخوف من الخسارة لدى الانسان اكبر بضعف من الرغبة في الربح.

على أية حال ما يهمنا من هذه التجربة ان مشاعر الانسان تؤثر على قراراته بشكل كبير اكبر من تاثير التحليل المنطقي.

فهل الانسان كائن غير عقلاني بطبعه؟

عالم النفس ليون فستنغر عام 1954 قام بمرافقة جماعة دينية من شيكاغو في امريكا والتي تنبأت بنهاية العالم في يوم معين وفي اليوم المحدد اجتمعوا ليترقبوا نهاية العالم وحتى دقت الساعة المحددة لم يحدث شيء وبعد بضعة دقائق ظهر لهم رجل الدين الاعلى خاصتهم ليقول لهم ان الرب قد غفر لهم وان نهاية العالم أُجلَت لوقت آخر غير معلوم حتى الآن. ما حدث ان الجميع قبلوا التبرير ولم يُظهِروا تذمرًا واستمروا على ايمانهم. فقام (ليون فستنغر) بتأليف كتابه (عندما تفشل النبؤة When Prophecy Fails). ووضع مفهومه (التناقض المعرفي) والذي ينص على ان: الايمان العميق لدى الشخص يجعله يقبل بأي تفسير مهما كان سخيفًا وان العقل البشري لايحتمل التناقض والحيرة لفترة طويلة ويميل الى ايجاد ما يوفر له الاطمئنان.

في عام 1959 استخدم فستنجر وكلارسمث 71 تلميذًا كمتطوعين ليقوموا بأعمالٍ مملة مقابل مبلغ مالي. مثلاً القيام بتدوير اسطوانات موجودة على لوح لمدة ساعة متواصلة وطلب من المتطوعين ان يقوم كل واحد منهم باقناع الآخر بان تلك المهمة كانت ممتعة. مع العلم ان المبالغ المالية التي حصلوا عليها كانت مختلفة فالبعض حصل على دولار واحد وآخرون حصلوا على ٢٠$ وعندما انتهوا من التجربة سألوا الاشخاص اذا ما كانت المهمة ممتعة ام لا.
ووجدوا ان الاشخاص الذين حصلوا على دولار واحد قالوا انها كانت ممتعة.
بينما من حصلو على ٢٠$ قالوا انها كانت مملة.

والتفسير هو ان من حصلوا على ١$ وجدوا ان الملبغ ليس سببًا كافيًا للكذب ولكن في نفس الوقت ارادوا ان يتغلبوا على التناقض وايجاد سبب مقنع يدفعهم للقيام بهذه التجربة لذا قالوا ان التجربة كانت ممتعة.

بينما الذين حصلوا على ٢٠$ وجدوا السبب المقنع للقيام بالتجربة وهو المبلغ الذي حصلوا عليه لذا ليسوا بحاجة الى اختلاق سبب اخر فـقالو انها كانت مملة.

تجربة فصل نصفي الدماغ

كان من المعروف لدى العلماء لمعالجة مرضى الصرع هو فصل نصف المخ الايمن عن النصف الايسر ويفعلون ذلك بقطع حلقة الوصل بين النصفين في منطقة (corpus collusum).

وان الاشخاص ذوي نصفي المخ المنفصلين لو اعطيناهم مثل هذه الصورة واغمضوا العين اليمنى وفتحوا العين اليسرى سوف يقولون انهم يرون وجه ولكن اذا فتحو العين اليمنى واغلقو العين اليسرى فسيقولون انهم رأوا كتبًا. وكذلك هم قادرين ايضًا على الرسم بكلتا اليدين في نفس الوقت. مع العلم ان النصف الايسر هو المسؤول عن اللغة وان العلماء يمكنهم الحديث لأحد اجزاء الدماغ دون ان يعلم النصف الاخر.

عالم الاعصاب Michael S. Gazzaniga وجد ان النصف الايسر مسؤول عن التبرير وتأليف القصص. ومثلاً لو طلبت من النصف الايمن ان يمسك تفاحة وسألت النصف الآخر لماذا انت تمسك تفاحة فقد يخبرك بانه كان جائعًا رغم انه ليس كذلك وليس هو من من مسك التفاحة بل الجزء الايمن واننا نحن من اخبرنا النصف الايمن بمسك التفاحة وهو ولم يكن جائعًا.

قد تكون ادمغتنا تقنع نفسها بانها حرة وهي ليست كذلك وهذه الملاحظة جعلتنا نطرح اسئلة عميقة حول حرية الارادة وما هي الذات.

الامتثال

احدى التجارب كان فيها عدد من الطلاب ومدرس متفقين فيما بينهم وطالب بينهم لايعرف ما يجري. المدرس يسأل الطلاب: اي الخطوط هو اطول؟ كان جواب جميع الطلاب جوابًا خاطئًا واشاروا لأحد الخطوط بانه الاطول رغم انه ليس الخط الاطول فلما سئل المدرس الطالب الضحية اجاب بنفس اجابة زملائه الذين معه رغم عدم صحة جوابه ورغم علمه المسبق بذلك. انقر هنا لتشاهد الفيديو

وفي تجربة اخرى أكثر وضوحًا تظهر كيفية انتقال العادات لدى الناس من دون ان يعرفوا ماذا يجري. هناك عدد من الناس جالسون في غرفة الانتظار ثلاثة منهم ضمن التجربة وواحد منهم لايعرف ماذا يجري، كان الثلاثة اشخاص كلما يسمعون صوت صفارة يقفون. وكرروا ذلك عدة مرات حتى بدأ الشخص الذي لايعرف ما يجري بالوقوف معهم والغريب في الامر انه استمر في الوقوف حتى بعد ذهاب هولاء الثلاثة والاكثر غرابة ان هذه العادة استمرت حتى للاشخاص الباقين فكلما يأتي شخص لقاعة الانتظار ويرى الناس يفعلون ذلك، يفعل ما يفعلونه ويستمر الامر هكذا.

الانحياز الادراكي

هو الانتباه لنمط محدد دون سواه وحرف الحقيقة الى ما نخشاه او ما نأمل حدوثه او ما نتوقعه او ما يشغل تفكيرنا. وهو احد اكبر المؤثرات على صناعة القرار وهو سبب رئسي في صناعة القرار الغير منطقي. والسبب الرئيسي في الاصابة بالانحياز هو العاطفة كمحاولة النظر بنظرة ايجابية للامور او محاولة التحيز لطائفتك او بلدك. او بسبب الخوف او بسبب الطمع. واطلق عليه العلماء انحيازًا لانه ناتج من اندفاعاتنا النفسية وليس من تحليلنا المنطقي.
فلو كنت من المهووسيين بالكائنات الفضائية ورأيت نورًا في السماء في الليل فعلى الارجح سوف تتذكر النور على انه نور ساطع وغريب وله نمط محدد وقد يبدو انه صادر من مركبة فضائية او صاروخ فضائي بالنسبة لك فيما قد يفسره عالم فلك على انه نيزك او شهاب.

واقدم لك هنا بعض الامثلة من ظواهر الانحياز الادراكية وهي:

1-الانحياز التاكيدي (Confirmation bias) : وهو الميل لمعالجة المعلومات من خلال البحث عن معلومات محددة دون سواها وتجاهل فئة او نوع آخر من المعلومات.

2-خطأ الإحالة الأساسي ((Fundamental attribution error (FAE): وهو قيام الفرد بـالتركيز على العوامل الخارجية في تفسير السلوك الشخصي والتركيز على العوامل الداخلية في تفسير سلوك المقابل. فاذا حدث لك امر سيء فسوف تلوم المحيط واذا حدث امر سيء لشخص ما فلن تتردد بلومه شخصيًا.

٣-الانحياز  المتاخر (Hindsight bias): هو الاعتقاد بان حدث ما كان بالامكان التنبوء به وانه بديهي جدًا. وهذا الاعتقاد يظهر بعد ظهور الحدث. وانه بعد انتهاء الحدث يقوم العقل باعادة ترتيب الافكار لتناسب ذلك.

وكما ان هناك قائمة كبيرة من الانحيازات الادراكية يمكنك الاطلاع عليها هنا

وايضًا هناك المزيد من الظواهر تسبب الاوهام لدى الانسان منها:

١-ظاهرة ”بادر ماينهوفن“ التي هي وهم التكرار. اذا لبست زي جديد قد تشعر بان عدد الناس الذين يلبسون هذا الزي قد ازداد بينما في الحقيقة عدد من يرتدون هذا الزي لم يزداد وانما ازداد انتباهك لهذا الزي بسبب حماسك له لكن قبل ان تشتري هذا الزي لم تكن تفكر فيه لذا لم تكن تنتبه له.

٢-ولدينا ظاهرة الديجافو التي تجعلك تشعر بان حدثًا ما قد حدث مسبقًا بالفعل.

٣-وظاهرة اخرى وهي البارادوليا وتتمثل برؤيتك لانماط في الاشكال العشوائية وخصوصًا انماط وجوه ويعود ذلك لاسباب عدة منها اننا نملك جزءًا خاصًا من الدماغ لاكتشاف الوجوه وهو نشط جدًا.

لو سألت شخصًا وقلت له لو قذفنا بطيخة كبيرة وتفاحة صغيرة من ارتفاع 50 مترًا في نفس الوقت من سيصل اولاً البطيخة ام التفاحة على الارجح سيجيب البطيخة لانها أثقل وزنًا وستسقط بسرعة أكبر ولكن التجارب تثبت انهما سيصلان الارض في نفس اللحظة. ان السبب وراء ذلك هو ان الاجسام كلها تملك نفس التعجيل وايضا السبب وراء ذلك هو ان قوة الجذب للجسم تزداد بزيادة كتلته ولكن في نفس الوقت مع زيادة كتلة الجسم تزداد مقاومتهُ لقوة الجاذبية بحسب مفهوم الممانعة لذلك يحصل توازن بين قوة الممانعة وقوة الجذب لتلغي احدهما الاخرى.

واخيرًا ميكانيك الكم اليوم توضح مدى ضعف أدمغتنا في التعامل مع الواقع حيث وجدنا ظواهر في الطبيعة لم نكن نعتبرها منطقية ابدًا.

ولنسأل هنا سؤالًا هل ايماننا بالدول والحدود والعرق والطائفة والجنسية وهل احكامنا على الآخرين وعلى افكارهم ناتجة من تفكير منطقي ام من اندفاعاتنا النفسية المعيبة.

إعداد: Ali Husham

تدقيق وتصميم ونشر: Tabarek A. Abdulabbas

المصادر: هنا و هنا