جاك دريدا …المنظّر الأوّل للتفكيكية أبرز تيارات ما بعد الحداثة

جاك دريدا …المنظّر الأوّل للتفكيكية أبرز تيارات ما بعد الحداثة

عُني الاشتغال والانشغال الفلسفي في الفكر ما بعد الحداثي بالانخراط في طرح خطابات فلسفية تتماشى ومسعى هذا الفكر القائم على استقطاب المقولات المركزية والسرديات الكبرى التي هيمنت بشكل جلي أو مضمر على التراث الفلسفي الغربي قديمه وحديثه على منوال مقولات اللوغوس، الصوت، الأصل، الهوية، بل سحبت وجرت معها ثنائيات طغى فيها طرف على حساب طرف تمَّ تغييبه وتهميشه عمداً، الأمر الذي استدعى إعادة التفكير في هذا المقصي واستحضاره عبر آليات وإستراتيجيات تروم هدم وتقويض أركان الميتافيزيقا الغربية في الفكر الفلسفي المعاصر، بل وتفكيك بؤر تمركزاتها التي شكلت سنداً ودعامة، ارتكز عليها الوعي الأوروبي في مجمله وعبر تاريخه الفلسفي الحافل بتمجيده لمنجزات أحاطت به كحصنٍ منيعٍ، لا يمكن اختراقه وكاعتقادٍ راسخٍ، لا يمكن زعزعة يقينه ودوغمائيته.

لذلك، يوصف الفكر التفكيكي الحديث، بأنه فكرٌ صعبٌ وقلقٌ في الآن ذاته، ويوصف جاك دريدا أحد أشهر أعلامه، بأنه مفكرٌ صعبٌ أيضاً، وفي هذا الصدد يقول عن نفسه:” أنا يهودي جزائري، يهودي لا، يهودي بالطبع، ولكن هذا كافي لتفسير العسر الذي أتحسسه داخل الثقافة الفرنسية، لست منسجماً إذا جاز التعبير، أنا إفريقي شمالي بقدر ما أنا فرنسي… (1)”، لابدّ من الإشارة إلى أنه كثيراً ما توصف حياة دريدا بأنها مفككة وهذا التفكك انطبع على فلسفته عامةً، فممّا قاله، أنه يعي كونه يهودياً من الجزائر، ومقطوع من جذوره اليهودية العربية، ولم يستطع أن يسكن في لغة أجداده العربية والعبرية، وإنما يسكن فيها دون أن يشعر بأنه في بيته، كما أشار دريدا إلى أن الطائفة اليهودية في الجزائر، تم تفكيكها أو بعثرتها ثلاث مرات على الأقل: أولاً: عبر فصلها في البداية عن اللغة أو الثقافة العربية أو البربرية، وثانياً: عبر فصلها عن اللغة وعن الثقافة الفرنسية، إن لم نقل الثقافة الأوروبية برمتها، وثالثاً: عبر انقطاعها عن الذاكرة اليهودية ذاتها دينياً وتاريخياً، فنلاحظ أن دريدا نفسه كمنظّر للتفكيكية، إنما كانت فلسفته ترجمةً للاغتراب والتفكك وأزمة الهوية التي كان يعيشها .

هذا الكلام ينبئ عن فكر تفكيكي غير مستقر، يسمه الغموض والتناقض واللاانسجام، والتشكيك في الخطابات المعرفية المطروحة (2) ؛ لهذا  ليس غريباً أن تسجل طفولته سعيه المبكر لكتابة الشعر بحثاً عن لغةٍ خاصةٍ، تعبر عن خصوصيات نفسه القلقة، وفي عام 1962م لفت دريدا إليه الأنظار عندما نشر ترجمةً لدراسة الفيلسوف الألماني هوسرل عن أصل الهندسة، وقدم لهذه الدراسة القصيرة بمقدمة طويلة تتعدى المائة والخمسين صفحة، حيث حددت هذه المقدمة المعالم الرئيسة لخط التفكير الذي اتبعه دريدا في كلّ كتاباته، فتحليل دريدا لفينومينولوجية هوسرل كان نقطة البدء لنقده للفلسفة الغربية، وهو نقدٌ عمل على إبرازه وتطويره في جل الكتابات والأعمال التي أصدرها فيما بعد (3). وفي سنة 1966م، وبناءً على دعوة قُدمت له شارك دريدا في مؤتمرٍ ضخمٍ في بالتيمز جامعة (جون هوبكنز John Hopkins) تحت عنوان: لغات النقد وعلوم الإنسان، وكان بحثه المقدم تحت عنوان: (البنية والعلامة واللعب الحر في خطاب العلوم الإنسانية Structure,Sign,and Freeplay in the discource of the human science) (4).

وتعدّ مداخلته من أكثر المداخلات أهميةً وإثراءً، وقد وضع فيها دريدا قواعد نظريته التفكيكية، على أن نشاط دريدا لم يكن مجهولاً قبل هذه المداخلة، فقد كان له الكثير من الدراسات والمقالات نشرها في مجلة (جماعة Tel quel)، وهي مجلة أدبية تتصدر قضايا النقد الأدبي والسيميولوجي.

حيث التقى دريدا في هذا المؤتمر بعدة علماء وفلاسفة، إذ شارك في هذه الندوة : “نجوم المشهد النقدي العالمي المعاصر من أمثال: رولان بارت، تزفيتان تودوروف، لوسيان غولدمان، جورج بولي، جاك لاكان …إلخ. ويجمع جمهور الباحثين على عدّ تلك الندوة بمنزلة البيان التفكيكي الأول…وهو ما يعني _مرة أخرى _أن التفكيكية قد تخلقت في رحم البنيوية “.

ويمكن القول إن أغلب الطروحات التي قُدمت، تُنسب إلى ما بعد البنيوية؛ لتسود بعد ذلك التفكيكية الساحة النقدية الأمريكية في السبعينيات، ويتأثر بها العديد من المؤلفين والنقاد ، وبذلك بدأت تهيمن أفكار دريدا، خاصةً بعد إلقائه لمحاضرته الشهيرة في الجمعية الفلسفية تحت عنوان: الاختلاف سنة 1967م، والتحاقه بجماعة نقد، وبعد ذلك أصدر على الفور الكتب الثلاثة التي قدم فيها فكره التفكيكي (5)  .

وهي: (في علم الكتابة De grammatologie) وهذا الكتاب أشهر كتبه على الإطلاق، وفيه يعارض النظرة العامة السائدة عن علاقة الكلام بالكتابة التي تعطي الكلام أفضلية مطلقة على الكتابة.

وكتاب:(الكتابة والاختلاف Ecriture et diffe’rence)، ويعرض فيه أعمال عدد كبير من المفكرين المعاصرين واتجاهاتهم الفكرية، من أمثال: ميشال فوكو وليفي شتراوس.

وكتاب: (الصوت والظاهرة  Phe’nome’ne La voix et le) خصصه للتحليل الفلسفي، وتناول فيه نظرية هوسرل عن العلامات وخاصة فكرتي الصوت والحضور ودورهما في الفينومينولوجيا، وهو من الكتب القليلة التي يعالج فيها دريدا موضوعاً محورياً واحداً .

وما يلاحظ على هذه الكتب الثلاث أنها تحتوي على بحوث نقدية في مجالات مختلفة (6)  ، ممّا جعل دريدا شخصية أساسية في المناقشات النظرية التي سادت الحياة الفكرية الفرنسية في الستينات (7)، ثم أردفها عام 1972م بكتب لاحقة(8) ،ولقد أسهمت هذه الكتب والمقالات في تعميق هذا المشروع الفكري_ النقدي، وما يميز هذه الأعمال أن جلّها منبثقة من قراءة نقدية لكل من أفلاطون و كانط وهيجل و روسو و نيتشه وهوسرل وهيدغر وغيرهم من الفلاسفة الذين كان لهم تأثير مباشر على الفكر التفكيكي(9) ، ومنذ ذاك الحين، نال دريدا  تقديراً عالمياً في أوروبا وخارج أوروبا(10).”واختير لعضوية كثير من الأكاديميات (أكاديمية الإنسانيات والعلوم بنيويورك، الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم …إلخ)، ونال جائزة نيتشه. ومنح العديد من ألقاب الدكتوراه الفخرية من جامعات (كولومبيا، واسكس، ولوفان، وكلية وليم ، والمدرسة الجديدة “.

تحرير : آلاء دياب

المصادر والمراجع

(1) دريدا، جاك _الكتابة والاختلاف، ترجمة: كاظم جهاد، دار توبقال للنشر والتوزيع، المغرب، الطبعة الأولى، 1988م:56.

(2) “الفكر لا يمكن دراسته بمنأى أو بمعزل عن الأسلوب الذي صيغ به، وربّما كان الأجدى إدراك المعنى أو الدّلالة اعتماداً، بالأساس وبدرجة أولى، على الأسلوب” . انظر: بن عرفة، عبد العزيز_ دريدا في سطور، موجز التفكيكية والاختلاف، كتابات معاصرة ، عدد/25، بيروت، 1995م:6

(3) انظر تفصيل ذلك: عطية، أحمد عبد الحليم _جاك دريدا والتفكيك ، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 2010م: 18.

(4) انظر تفصيل ذلك: عطية، أحمد عبد الحليم _جاك دريدا والتفكيك: 10. انظر ما أورده: وغليسي، يوسف _مناهج النقد الأدبي، دار جسور للنشر والتوزيع، الجزائر، الطبعة الأولى، 2007م:176

(5) انظر تفصيل ذلك: عطية، أحمد عبد الحليم _جاك دريدا والتفكيك: 10_18

(6) بحوث نقدية في الظواهرية عن (هوسرل)، والألسنية عن (دوسوسير)، والتحليل النفسي عن (لاكان)، والبنيوية عن (ليفي شتراوس) .انظر : ساروب، مادن_ دليل تمهيدي إلى ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، ترجمة : خميسي بوغرارة، دار البعث، قسنطينة، د. ط، 2003م : 47.

(7) انظر تفصيل ذلك: عطية، أحمد عبد الحليم _جاك دريدا والتفكيك: 18_19

(8) (التشتيت La dissemination ) ، (مواقف Positions) ، (هوامش الفلسفة Marges de la philosophie)، وكتب أخرى ومقالات تدور في الأغلب حول كتابات وآراء غيره من المفكرين والفلاسفة والأدباء.

(9) انظر زيما، بيير_ التفكيكية دراسة نقدية ، ترجمة : أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1996م:6.

(10) انظر تفصيل ذلك: عطية، أحمد عبد الحليم _جاك دريدا والتفكيك: 10