في عالمٍ مليءٍ بالتناقضات… ما هي أفضل طريقة للتأقلم مع الواقع؟

كيف لنا ان نتحمل الألم، والخسارة، والغضب، والسعادة، كلها في ذات الحين؟

نحن نعيش في عالم مليء بالاضطرابات والتناقضات،  البعض منها شائعُ جداً في حياتنا اليومية لدرجة أننا لا نلاحظه، كتناول الطعام و نحن لا نشعر بالجوع، أو البقاء مستيقظين و نحن في أشد حالات الإنهاك الجسدي، لكن القسم الآخر من هذه التناقضات لا يمكن إغفاله، واحيانًا لا يمكننا التخيل كيف يمكننا التعايش معها.

كمثالٍ، نظرتنا إلى بعض القادة السياسيين الذين نأمل أن يجعلوا من العالم مكانًا افضل، و الذين يقومون في الوقت نفسه بإلقاء الأكاذيب و نشر الكراهية وتهديد أمن بلدانهم وبلدان أخرى… وآخر هو عندما نقوم بمشاهدة مشاهد مرعبة لكوارث إنسانية وطبيعية من وراء شاشاتنا, و نحن آمنين في بيوتنا لا يمسنا الضُر… فكيف نقوم بتحمل هذا الكم من التناقض؟

و على نطاق أضيق -لكنه لا يخلو من الأهمية- كيف يمكن للأهل إعطاء أولادهم الشعور بالطمأنينة والأمان وتوفير جميع احتياجاتهم دون افسادهم؟

في الأسابيع القليلة الماضية, سمعتُ الكثير من التساؤلات حول مواضيع متناقضة, مثلاً: يخطط زوجان للاحتفال بزفافها منذ أكثر من سنة, لكن, قبل يومين من موعد الزفاف, تحصل مجزرة لاس فيغاس, فكيف يتصرفان؟ هل يقومان بتأجيل الزفاف الى اشعار آخر كنوع من التعزية؟ أم يقومان بإكمال إجراءات الزفاف تكريماً لهؤلاء الذين فقدوا حياتهم؟

العالم الطبيعي ملئ بالتناقضات, أبسطها كمثال هو واقع أن هناك مخلوقات لا يمكنها أن تنجو الّا على حساب حياة مخلوقات أُخرى, على الرغم من أننا يمكننا تقبل مثل هذه الحقائق كجزء ضروري من دورة الطبيعة, إلا أن بعضها الآخر اصعب تقبلاً, مثل واقع أن يضرب إعصار و يدمر “بورتو ريكو” و بعض الجزر الكاريبية اون يضرب زلزال “نيو مكسيكو” في الوقت الذي تنعم فيه مدينة مثل “نيو انغلاند” بخريف دافئٍ هادئْ.

حسب “ناشيونال جيوغرافيك” ,بينما يمر النظام البيئي بتغييرات نتيجة الاحتباس الحراري, بعض فصائل الحيوانات ستقوم بالهجرة شمالاً ليزدهر وجودها, والبعض الآخر لن تستطيع الهجرة مما سيؤدي انقراضها … يشير المقال إلى تناقض آخر و هو بينما يزداد سقوط الثلوج و الأمطار على الكوكب, ستعاني بعض الدول من ازدياد الجفاف و التصحر مثل “اثيوبيا” و التي تعاني اصلا من نقص في مصادر المياه.

أعرف شخصاً مؤيداً للحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي دونالد ترمب, اعتلى مؤخرا منصة لينتقد كمية مصاريف الحكومة الأمريكية, أخبرني بأنه يجده أمراً لا يُحتمل عندما يعترف اثنان من مستشاري الرئيس بسفرهما على متن الطائرات الرئاسية بدل ركوبهما في رحلات طيران اعتيادية, والذي وصفه بأنه “مصروف ضخم و غير ضروري يقع على عاتق الشعب الأمريكي”, بعد قرائته لتقرير في مجلة fortune الأمريكية يصرح بأن ترامب قد قام بالتوقيع على مذكرة صرفيات تبلغ قيمتها تريليون دولار, واحد و ستون مليون دولار منها خُصصت للقوات الامنية التي تتلخص مهامها في حماية ترمب و عائلته بينما يمكثون في مساكنهم الخاصة في نيويورك وفلوريدا… يسأل هذا الشخص: كيف يمكنني التوفيق بين انتقادي لهذا الواقع و بين اعتقادي بأن افكار ترمب السياسية حول الحكومة صحيحة؟

المؤلم في الأمر هو أن هذه التناقضات تتواجد معاً في نفس الوقت, فكيف يمكننا العيش مع الألم, الغضب, العجز, و الحزن , مصحوباُ بالسعادة, المتعه, و الاثارة؟

في بعض الأحيان, هذه التناقضات تصبح لا تُحتمل, لكن, كما تصف Judith Viorst في كتابها Necessary Losses أي “خسارات ضرورية” , فإن عيش هذه التناقضات ضروري لنا كي ننضج, تُسمي جودث الامر “الرابط الحيوي بين الخسارة والربح… ما نخسره من أجل النضج”.

يقول زميلي “ليون سيلتزر” و الذي يعمل كمعالج بدني, بأننا لا يمكننا الشعور بشيئين مختلفين في الوقت ذاته, لكنه يصف الموضوع بأنه تلك الحالة عندما تتواجد كلتا المشاعر داخل واقعنا العاطفي, لكن لا يمكن الشعور بهما أو اختبارهما بنفس الدرجة و في نفس الوقت.

تقول عالمة النفس “فيرجينيا ديموز” بأن مشاعرنا تتولد لأسباب منطقية, لكن, كيف لنا أن نختبر عاطفتين متناقضتين في الوقت ذاته؟ و كيف نتصرف تجاه هذه الحالة؟

الطبيب النفساني و الناجي من المحرقة النازية “فكتور فرانكل” قام بصياغة مبدأ في الطب النفسي يدعى “التناقض مع الهدف” او “Paradoxical intention” , لتطبيق هذا المبدأ, تم الطلب من الشخص محل الاختبار ان يذهب طواعيةً للانخراط في نشاط او فكرة هو نفسه يحاول التخلص منها… تكمن الفكرة هنا في استبدال محاولاتنا للتخلص من فكرة معينة, بالانخراط عميقاً فيها و فهمها, هذا الفهم العميق سيولد بدوره قابلية افضل على التعامل مع الفكرة التي نرفضها. تجربة “فكتور فرانكل” في المخيمات النازيه حيث عاش في الفترة بين 1943 – 1945 و تحمل خسارة والديه, اخيه, و زوجته الحامل, و كذلك تجارب مرضاه النفسيين, قادته الى تطوير هذا المبدأ. كان فرانكل يؤمن بأن للبشر غاية دائمة في ايجاد معنىً لحياتهم و لما يحيط بهم… ففي الوقت الذي لا يمكننا تجنب الخسارة و المأساة, يسعنا فقط ايجاد المعاني داخل هذه الصعوبات, و من خلال هذه المعاني فقط, سنتعلم كيفية التأقلم معها.

التأمل, العلاج السلوكي الجدلي, و القبول و الالتزام العلاجي, هي بعض انواع العلاجات النفسية الحديثة و التي تتناغم مع المبدأ الذي قام بصياغته فرانكل.

احدى زميلاتي, و التي تعمل كمعالجة جسدية, ناقشت هذه الفكرة في مقال لها :

احدى الامور التي ناقشتها كانت عن لسان مؤسسة العلاج السلوكي الجدلي (DBT), تعبر الفكرة عن مساواة الشعور بالالم دون تقبله بالمعاناة… قامت “مارشا لينيهان” بتأسيس العلاج السلوكي الجدلي للتخفيف من الالم العاطفي الحاد الذي يعاني منه المصابون باضطراب الشخصية الحدي (borderline personality disorder). الفكرة الجوهرية هنا هي ان مسعانا للتغيير و قبولنا بالامر الواقع هما مساران متداخلان. الامر قد يكون صعب الاستيعاب للوهلة الاولى, فنحن غالباً ما نعتبر مسعانا للتغييرينبثق من عدم تقبلنا للواقع, فنحن نقرر اما القبول, او التغيير, و ليس كلاهما.

و لكن, في الحقيقة, فأن تقبل الامر الواقع هو الخطوة الاولى في طريق التغيير. فعن طريق تقبل الواقع, يمكن للناس الالتزام بعملية التأقلم بأفضل صورة, يساعد تقبل الواقع كذلك في تقليل سلبية الاقناع الذاتي لنفي وجود المشكلة من الاساس.

في تجربتي الشخصية, سلبية الاقناع الذاتي تأتي أيضاً عندما نعتقد بأن علينا ابتكار حل عظيم لمشكلة كبيرة, الكثير منا يرغب بالتصرف, لكن لا يعرف كيف, و النتيجة هي شعورنا بالخذلان و انعدام الامل, متبوعاً بالاكتئاب, الكسل, و الفشل.

الالتفات الى الصعوبات لا يعني بالضرورة استجابتنا الفورية لتدارك الموقف, في الحقيقه, لا يمكننا حل الصعوبات في دقيقة او يوم او شهر او حتى سنة كاملة. لكن بالسماح لأنفسنا بالشعور بالالم, الاذى, الحزن, الغضب و الاحباط , يُمَكِنُنا من الشعور بالحب, السعادة, القناعه, وغيرها من المشاعر المفرحة. على الرغم من عدم استشعارنا للموضوع, الا ان الابحاث السلوكية تشير الى ان سماحنا لأنفسنا بالشعور بالامور الصعبة و المؤلمة يمكن ان يغير من حالتنا النفسية و طريقة تعاملنا مع الاخرين, الامر الذي لن يغير شخصياتنا فحسب, بل العالم الذي نعيش فيه كذلك.

حاول ايصال شعورك بالالم لشخص آخر, ليس بالضرورة باستخدام الكلمات, يمكنك ايصال مشارعرك بصورة غير لفظية كالابتسام عندما تكون سعيداً و تقطيب حاجبيك عندما تكون غاضباً, لاحظ ردود افعال الناس من حولك… عندما ابتدأت مارشا بجلسات العلاج السلوكي الجدلي, قامت بجعل المشاركين بالعلاج يبتسمون للغرباء في الشارع, النتيجة ان مشاعرهم تجاه انفسهم تحسنت بعد هذا الفعل, يعود السبب الى ان الناس يستجيبون الى اشاراتنا اللا-لفظية, و نحن بدورنا نستجيب لردود افعالهم.  و مع مرور الوقت, سيكون لطرق تواصلنا الغير لفظية تأثير على الناس, و الذين سيقومون بدورهم بنقله الى اناس آخرين.

تمييز, تقبل, و نقل المشاعر الصعبة و المؤلمة ربما لا يبدو كافياً لحل أي مشكلة, لكن لو قام عددٌ كافٍ منا بالسماح لما هو قاسٍ و صعب ان يكون كما هو, ربما لأستطعنا نقل هذه المشاعر الى الاخرين, و مع الوقت و ازدياد عدد المشاركين في هذا الفعل, يمكننا فهم ماهية المشكل سوياً, ليس فقط على مستوىً شخصي, بل عالمي. عندما يزداد فهمنا و ادراكنا عمقاً, نستطيع ايجاد طرق جديدة للتعامل مع مختلف المشكلات التي تواجهنا, طرقٌ يمكنها ان تصنع فرقاً حقيقياً في هذا العالم.

 

 

 

ترجمة: Rafa Sudad

تدقيق وتصميم: Tabarek A. Abdulabbas

المصدر: هنا