“الفينومينولوجيا ” المعنى الذي لا يمكن تعيينهُ بصورة نهائية

 

قبل الخوض في التعريف الفلسفي للفينومينولوجيا وتتبع تاريخ ظهورها، لابد من تبسيط الأمر بمثال حتى نضمن الحصول على فهم أولي لمعنى هذا المصطلح .
لنفترض أنك تعيش في قرية ما, حيث حدود وعيك مقتصرة على مجموع الظواهر التي في القرية مثل بيتك ومزرعتك ومسجد أو كنيسة القرية وما شابهها من أماكن قد تتواجد في القرى، ثم قررت الانتقال إلى المدينة حيث الأبنية الشاهقة والتصاميم الحديثة والشوارع المزدحمة فضلاً عن اللهجة والأفكار والعادات والتقاليد التي قد تختلف كليات عن تلك التي تتبعها قريتك، بالطبع سيكون لتلك الظواهر تأثير بالغ عليك وعلى وعيك وقد تتغير طريقة تفكيرك بعد مرور فترة من الزمن تبعاً للظواهر الجديدة التي تأثرت بها.
إذاً هذا ما تعنيه الظاهراتية ببساطة أي دراسة ما تؤثر به الظواهر، ويمكن تلخيصها في المعادلة الآتية : الظواهر + عمليات الدماغ = وعي. والظاهراتية تدرس هذا الوعي.

ومن الجدير بالذكر أن المقصود بالظواهر ليس ظواهر العالم الخارجي، أي الظواهر الطبيعية الفيزيائية – على الرغم من أن هذا المصطلح قد ظهر بهذا المعنى لدى البراجماتي الأمريكي شارلز بيرس ولدى الألماني إرنست ماخ، بل المقصود بالظواهر التي تدرسها الفينومينولوجيا ظواهر الوعي، أي ظهور موضوعات وأشياء العالم الخارجي في الوعي، وبذلك تكون الفينومينولوجيا هي دراسة الوعي بالظواهر وطريقة إدراكه لها وكيفية حضور الظواهر في خبرته.

إن علم الظواهر أو الظاهراتية أو الفينومينولوجيا هو مدرسة فلسفية تعتمد على الخبرة الحدسية (أي ما تمثله هذه الظواهر في خبرتنا الواعية) كنقطة بداية ثم تنطلق هذه الخبرة لتحليل الظاهرة وأساس معرفتنا بها. غير أن الظاهراتية لا تدعي التوصل لحقيقة مطلقة مجردة سواء في الميتافيزيقيا أو في العلم، بل تراهن على فهم نمط حضور الإنسان في العالم.

وبذلك يمكننا تمييز ثلاث سمات رئيسية للفينومينولوجيا :
١- منهج ينحصر في الظاهرة فقط أي ما هو معطى بطريقة مباشرة وهي بذلك تغض النظر عن العلوم الطبيعية وتتعارض مع المنهج التجريبي الذي يدعو إلى معرفة الطبيعة والإستفادة منها.
٢- تغض النظر أيضاً عن تقديم أي نظرية بالمعرفة وبذلك تتعارض مع المثالية التي ترد كل ظواهر الوجود إلى الفكر وتجعله منطلقاً لمعرفة الوجود.
٣- اهتمامها بالماهية والتي تعني المضمون العقلي المثالي للظواهر الذي يُدرك إدراكاً مباشراً.
وبذلك يمكننا القول أن الفلسفة الفينومينولوجية تعترف بوجود الماهية على خلاف الفلسفات الأخرى التي لم تكن تعترف بوجود الماهيات وتقول بعدم إمكانية معرفتها. يمكن أن نرصد بدايات الفينومينولوجيا مع هيغل ، كما يعتبر إدموند هوسرل مؤسس هذه المدرسة، تلاه في التأثير عليها العديد من الفلاسفة مثل هايدغر وسارتر وموريس ميرلو بونتي وريكور .

وقبل التطرق إلى منهج هوسرل لابد من التعريف به أولاً، إدموند هوسرل: فيلسوف ألماني ومؤسس الظاهريات، ولد في موراليس في تشيكوسلوفاكيا في عام ١٨٥٩. درس الرياضيات في لايبزغ وبرلين على كارل وايستراس ولئوبولد كرونكر . ثم ذهب إلى فيينا للدراسة تحت إشراف لئو كونيكس بركر . كما درس الفلسفة على فرانس برنتانو وكارل شتومف . توفي عام ١٩٣٨ في فرايبورغ .

إن فلسفة هوسرل هي فلسفة للماهيات، وكلمة ماهية هنا لا تستخدم بمعناها العميق -أي ما هو عليه الوجود- بل فقط ما هو عليه المظهر . ورغم أن هوسرل هو عالم رياضيات ومنطق إلا أن مذهبه يمكن إستخدامه على نطاق واسع في جميع ميادين الفكر الفلسفي. ويعد أول فيلسوف أعطى لكلمة فينومينولوجيا بعدها العميق لتصبح علماً كلياً مفتوحاً ، وليس مذهباً جزئيًا ألا أن هذه الكلمة استعملت قبل هوسرل بفترة طويلة وفي معانٍ متعددة.
إذ عمد على تتبع تاريخها الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند في قاموسه الفني والتقني واعتبر أن الفيلسوف لامبير أول من استخدم مصطلح الفينومينولوجيا ثم تبعه فلاسفة كثر من أمثال إيمانويل كانط في كتبه على رأسه (نقد العقل الخالص) وهيجل في كتابه (فينومينولوجيا الروح) وهارتمان في كتابه (فينومينولوجيا الضمير الأخلاقي) ، وفي بداية القرن العشرين صار يطلق هذا المصطلح على اتجاه يعتبر من الاتجاهات الأساسية في الفلسفة الأوربية المعاصرة ، أسسه هوسرل الذي كان له تأثيرًا حاسمًا على الفلسفة الألمانية والفرنسية، وفينومينولوجيا هوسرل هي مزيج من عديد من أفكار وآراء فلاسفة تأثر بهم هذا الأخير.

سعى الفيلسوف هوسرل إلى أن يجعل الفلسفة علمًا كليًا دقيقًا للمعرفة الإنسانية ولكافة العلوم الممكنة ، وكان يطلق على الفينومينولوجيا في بعض الحالات بالعلم الدقيق والفلسفة الأولى أو باعتبار أنها نظرية وصفية خالصة للطبيعة الماهوية المتعلقة بالمكونات الداخلية للشعور، أو هي الفلسفة التي تعنى بالبدايات الصحيحة والأصول الحقيقية, واعتبر كذلك أنها عملية إدراك لماهيات تمثل جوهر الفينومينولوجيا.

 

المصادر: 1, 2, 3

إعداد: سماح صلاح
تعديل الصورة ونشر: Abilta E Zeus