كوفيد-19 على أريكة التحليل النفسي: تحليل سيغموند فرويد المدهش

 

 

ما الذي كان من الممكن ان يقوله مؤسس علم النفس التحليلي عن التأقلم في يومنا هذا؟

في علم النفس التحليلي الكلاسيكي بريادة سيغموند فرويد (1939 – 1856)، يستلقي المريض على أريكة بينما يجلس الطبيب النفسي خلفه و بهذا لا يمكن للمريض رؤيته مباشرةً.

دعا سيغموند فرويد الى ان جلسة التحليل النفسي ينبغي الا تكون وجهاً لوجه. هل كانت تلك محاولة أولية للتباعد الإجتماعي؟ ففي نهاية الأمر، عاش سيغموند فرويد بالفعل فترة جائحة الحمى الإسبانية التي بدأت عام 1918 و أستمرت حتى عام 1920.

ففي الواقع، و بالنسبة لفرويد، تؤدي المقابلة في غرفة الفحص و ترتيب الأثاث بالطريقة التي تحجب المحلل النفسي عن رؤية المريض عملية نفسية جبارة.

من المفترض ان تشجع خدعة الجلوس هذه المريض على سرد كل ما في خاطره دون فرض الرقابة على نفسه. و بخلاف ذلك، إن كان بإمكانه رؤية الطبيب النفسي وهو يعبس عندما يبدأ بالإفصاح، فمن الممكن أن يمنعه ذلك من البوح.

هل لاحظت من قبل كيف تصبح المحادثة أكثر حميمية عندما تجلس بجوار شخص ما بحيث لا تنظر إليه مباشرةً؟

خلال الوباء الحالي ، تعني قواعد “التباعد الاجتماعي” أنه لا يمكن للمعالجين مقابلة المرضى جسديًا. ما هي الآثار المترتبة على التحليل النفسي “الأكثر تشدد” أو “قديم الطراز”، على النحو الذي حدده سيغموند فرويد حيث لايراك المريض مباشرة، ولكنه معك في نفس الغرفة؟ كيف يمكن تكرار ذلك بالعمل عن بعد؟

نشرت الجمعية الدولية للتحليل النفسي على موقعها الإلكتروني بعض الإرشادات، بما في ذلك: “قد يفضل بعض المرضى الذين يستلقون على الأريكة عدم رؤية المحلل خلال الجلسة عن بعد. يمكنهم القيام بذلك عن طريق إيقاف تشغيل خيار الفيديو أو عن طريق وضع الجهاز / شاشة الفيديو في موضع معين بحيث لا يمكنهم رؤيته. خطر القيام بذلك هو انه في حال فشل الاتصال فجأة، فقد لايكون المريض على دراية بذلك وسيستمر في الحديث ‘.

في صحيفة الجارديان البريطانية بتاريخ 23 أبريل، نشر الطبيب النفسي غاري غرينبرغ مقالًا بعنوان “العلاج النفسي في الحجر – أشعر بالرعب بقدر ما يشعر به مرضاي تماماً”.

يشرح كيف يفرض إستخدام الحاسوب الشخصي لإجراء الجلسات تحديات جديدة على المعالج النفسي، بما فيها القدرة على النظر الى داخل منزل المريض للمرة الأولى، هل سيتسبب أي مما يراه في تشتيته؟
ولكن من بين كل تلك الصعوبات التي يعترف بها غاري غرينبرغ، يبدو إن سيغموند فرويد مؤسس علم النفس التحليلي و ربما منشئ العلاج النفسي الحديث لم يقدم حسب علمنا عوناً كافياً في المحنة الوبائية الحالية.

يقول غازي غرينبرغ: ‘راهن سيغموند فرويد على الإنسان كمصدر للمعاناة و مرهماً لها حيث إنه لم يضع في الحسبان عدوا في غاية اللامبالاة كفيروس، أكثر من خوفه من أن يصطدم نيزك بالأرض أو أن تنطفئ الشمس فجأة… فلا خيار لنا سوى ضرورة كبح أنفسنا للدرجة التي لم يتكهن فرويد بها… في وقت نحتاج به لبعضنا البعض بشدة، عندما نُهاجم ليس من قبل الطبيعة البشرية بل من قبل الطبيعة ذاتها، أفضل ما يمكننا فعله للعناية ببعضنا البعض هو أن يبقى أحدنا بعيدا عن الآخر. حتى فرويد في أكثر حالاته سوءا لم يتخيل ذلك بتاتا… فربما ليس هذا الوقت المناسب لنسأل ” ماذا كان لسيغموند أن يفعل؟”. فهو لا يعد نموذجاً يحتذى به في الأوقات العادية، فما بالك بأوقات كهذه؟

هل حقاً إن فرويد؛ لم يضع في الحسبان عدواً في غاية اللامبالاة كفيروس؟

كانت آخر جائحة فيروسية عظيمة تعرض لها العالم الغربي قبل الوباء الحالي هي الجائحة المدعاة بالحمى الإسبانية و التي بدأت عام 1918.

لاقت إبنة فرويد، صوفي فرويد حتفها جراء إصابتها بالحمى الإسبانية و كانت تبلغ من العمر 27 سنة.

بشكل غريب، بلغ معدل الوفيات خلال جائحة عام 1918 ذروته عند سن ال28 بالضبط، وبعبارة أخرى كان الشباب في أواخر العشرينيات من العمر عرضة بشكل غريب لهذا الفيروس.

إحدى النظريات التي تم وصفها في صحيفة بعنوان “الوفيات حسب العمر خلال جائحة حمى عام 1918”: ما يكشف عن سر الوفيات العالية بين الشباب مع المؤلف الرئيسي آلان غانيون عالم الديموغرافيا في جامعة مونتريال هو إن هذا الجيل كان قد تعرض لما يدعى بالحمى الروسية و التي كانت جائحة أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر، بعد ولادتهم مباشرةً.

في سلسلة من الدراسات، ناقش آلان غانيون إحتمالية إن يكون التعرض لعدوى فيروسية سابقة في سن مبكرة معينة هو السبب في تمهيد الجسم للتفاعل بسوء على وجه الخصوص مع عدوى أخرى لاحقا في الحياة. يتم الآن فحص هذه النظرية لمعرفة ما إن كانت تفسر سبب إن كبار السن بالتحديد هم المعرضون لكوفيد-19 و ليس من هم في أوائل العشرينيات من عمرهم.

بالنظر إلى ما نعرفه الآن عن قابلية تعرض فئة عمرية لهذا الفيروس التاجي بشكل أكبر، كتب آلان غانيون متنبئاً الى حد ما في عام 2013 ؛ “إن معرفة النمط العمري للفئة المعرضة للوفاة الناجمة عن الإنفلونزا يمكن أن يحسن إدارة الأزمات خلال أوبئة الإنفلونزا في المستقبل”.

بينما لا يزال الخبراء يبحثون في هذه النظرية بالتحديد، نستمر نحن بالغرق في وفرة من الإجوبة العلمية عن الوباء المستجد فبالتالي إنه لمن المغري أن نلجأ الى العلم لنجد حلاً لمعاناتنا.

ما الذي فعله فرويد؟ كيف تأقلم قبل وجود التطورات العلمية الحديثة في الطب النفسي و علم النفس؟ كيف إستجاب للتعامل مع فاجعة فقدان الأعزاء في وسط جائحة؟

كتب فرويد في رسالة إلى أوسكار فيستر، بتاريخ السابع و العشرين من يونيو عام 1920، تماماً بعد يومين من وفاة إبنته الحبيبة؛ ‘في هذا المساء، تلقينا خبر إن الإنفلونزا الرئوية قد سلبت حياة حلوتنا صوفي، سلبت في ذروة توهج صحتها، سلبت من حياة كاملة و فعالة كأم كفوءة و زوجة محبة خلال أربعة أو خمسة أيام، كما لو أنها لم تكن. رغم إننا قد كنا قلقين بشأنها لبضعة أيام، فمع ذلك لم ننفك عن كوننا متفائلين. إنه لمن الصعب جداً أن تصدر الأحكام عن بعد. و يجب أن يبقى هذا البعد بعداً، لم يكن بمقدورنا السفر على الفور، كما آملنا بعد تلقينا الخبر المقلق الأول، لم يكن هنالك قطاراً ولا حتى للحالات الطارئة. إن وحشية أيامنا العلنية تثقل كاهلنا، سيتم حرق جثتها غداً. يا لإبنتنا الغالية المسكينة! تركت صوفي خلفها ولدين، أحدهما في السادسة من عمره و الآخر يبلغ من العمر ثلاثة عشر شهراً و زوج لا عزاء له و الذي عليه ان يدفع ثمن سعادة هذه السنوات السبع غالياً. شعروا بالسعادة في أعماقهم حصراً، أما ظاهرياً فكانت هنالك حرب و تجنيد و جروح و إستنزاف لمواردهم و لكنهم ظلوا شجعان و سعداء.

في رسالة سابقة إلى فيستر ، كاهن ومعالج نفسي، بتاريخ 10 سبتمبر 1918، يكشف فرويد عن و جهة نظره حول الطبيعة البشرية، والتي تعد واحدة من أكثر اقتباساته جدلا (بالخط العريض هنا): لا أصدع رأسي كثيرًا بالتفكير في الخير والشر، لكنني لم أجد الكثير مما هو “خير” في البشر بشكل عام. خلال تجربتي ، أغلبهم رعاع… ”

هل جعلت منه معاناته و تجاربه مع مرضاه مريراً؟

يوضح الطبيب النفسي أنطوني ستور في كتابه “فرويد، مقدمة وجيزة”؛ ‘…في عمله السريري كان فرويد طيباً و متسامحاً… ولكن لم تكن طيبته قائمة على أية آمال كبيرة فيما يخص الجنس البشري الذي كان ينظر إليه بإحتقار أو بنفور بدلاً من الحب.

يختتم أنتوني ستور ؛ “… فيما يتعلق بالضعف البشري، أظهر فرويد تسامحاً إستثنائياً إلى حد كبير. هذا، لأنه أدى إلى سلوك أكثر تحضرا في التعامل مع الإضطراب العصبي، والانحراف الجنسي، والأشكال الأخرى من سوء التكيف العاطفي، و يعد هذا واحد من أثمن موروثات فرويد … ”

لم يعتقد فرويد قط أن التقدم في العلوم ، أو على وجه الخصوص، علم الأعصاب، سيقدم في نهاية المطاف إجابة لمشكلة المعاناة البشرية. فبدلاً من ذلك، سيظهر حلاً من الطريقة التي نتعامل بها مع بعضنا البعض ومن مدى فهمنا لأنفسنا و عواطفنا. كان يؤمن بأن ذلك يتجاوز قدرات التجارب المختبرية.

لعل أحد الأسباب التي تجعل البعض يجد العلاج النفسي، على جانبي الأريكة، غير مفيد بما فيه الكفاية في هذا الوقت، هو أن العلاج الحديث لطالما قد أكد على الطريقة والنظرية والتعليم الأكاديمي، على حساب الإنسان.

إن مصدر الإرث الحقيقي الذي تركه فرويد و الذي يمكن أن يكون الأكثر قيمة الآن، هو إنسانيته عند مواجهة واقع المعاناة البشرية بصورة مباشرة.

في الحادي عشر من إبريل عام 1929، كتب سيغموند فرويد الى صديقه الطبيب النفسي الذي كان حزيناً على وفاة نجله الأكبر، روبرت و الذي وافاه القدر في العشرين من عمره؛ ‘اليوم، كانت لتبلغ إبنتي المتوفية سن السادسة و الثلاثين… نعلم بأن الحزن الشديد الذي نشعر به بعد خسارة كتلك سيواصل مساره، و لكن سيستمر عزاءنا و لن نجد عوضاً. مهما كان الشيء الذي سيحل محله، حتى لو ملئ هذا الفراغ بأكمله، فلن ينفك عن كونه شيئا آخر. و هكذا يجب أن تكون الأمور، إنه السبيل الوحيد لإدامة حب لا نريد أن نتخلى عنه’

توفي الدكتور بيتر بروجن في عام 2018. بينما كتب هذا المقال الدكتور راج بيرسود، تم الاحتفاظ باسم الدكتور بروغن في السيرة ذاتية للإشادة بمساهماته بشكل عام.

 

المصدر: هنا

 

ترجمة: نسرين حمدي
مراجعة وتعديل الصورة: Abilta E Zeus