الأحكام المسبقة معرفة قائمة على السطحية والابتذال، ولكن هل يمكن أن نتحرر منها؟

 

لماذا نؤمن بما نؤمن بهِ؟ يفرق العالم الرياضي ليوناردو أويله بين ثلاث أنواع من “الحقائق”:
الأشياء التي نؤمن بها لأننا ادركناها ذاتيًا، الأشياء التي نؤمن بها لأننا استنتجناها بعد تفكير متعمق، والأشياء التي نؤمن بها لأن أنسانًا آخر قالها لنا.
كان هذا التفريق مُنتشرًا جدًا في عصر التنوير, تتمتع القناعات من النوع الأول بمكانة خاصة مُتميزة, فالمرء يعرف أن شيئًا ما حقيقة أذا ما رآه أو سمعه أو شعر بهِ شخصيًا, كذلك فأن التفكير الذاتي شيء جميل. أما الأشياء التي يؤمن بها المرء لأن أخرين قالوها فهي قناعات ضعيفة ويمكن مهاجمتها وألا من أين يعرف المرء أن ما قاله الأخرين صحيحًا؟

بناءًا على هذه الخلفية فأنه من الغريب أن معظم القناعات التي لدينا ليست من النوع الأول ولا الثاني وإنما من النوع الثالث! فنحن نؤمن بالغالبية العظمى من الأشياء ليس لأننا اختبرناها أو فكرنا بها ذاتيًا وإنما لأن أحدًا قالها لنا. من هنا يمكن للمرء دون كبير مبالغة أن يقول إن صورتنا عن العالم تعتمد على ما نسمعه ويصل إلينا من أقوال.

ينبغي أن نتعرض هنا لذكر مفكر
لعب دورًا مهمًا في بدايات التنوير هو: كريستيان توماسيوس (1655 – 1728). قد طور الفيلسوف الألماني أول نظرية عن الأحكام المسبقة وهي نظرية مميزة للفلسفة التنويرية ولم تفقد إلى اليوم شيئًا من معاصرتها, قسم توماسيوس الأحكام المسبقة إلى : الاحكام التي تعتمد على السلطات وتلك التي يحدثها التهور والتعجل والأحكام المسبقة التي تعتمد على الأيمان بسلطة ما, وهي الأسوأ في معالجتها, فإذا قام شخص ما بسبب حبه النظري للسلطوية البشرية بابتلاع رأي خاطئ فأنه يصعب التخلص منه.
دائمًا ما تكون الآراء التي تُبنى على الإحالة السلطوية محلًا للنزاع؛ حيث يمكن للمرء أن يحيل على سلطات أخرى تزعم العكس أو يمكن له أيضًا أن يسوق الأسباب التي من أجلها لا ينبغي الوثوق كثيرًا في هذهِ السلطوية أو تلك. كذلك يمكن للمرء أن يكون راديكاليًا ويشكك فيما يسمى التعليل من خلال الإحالة على سلطة نافذة. وقد وجد في مجال الفلسفة انتفاضة حقيقية ضد هذه السلطويات. وأشهرها هو ما حدث في عصر التنوير.
البشر مطبوعون على القابلية للأحكام المسبقة، ولكن لماذا؟ يرجع السبب، کما یری توماسيوس، إلى عجز أطفال البشر. فبينما أطفال الحيوانات بفضل غريزتها تجد طريقها بسرعة، يظل أطفال البشر ولوقت طويل عالة على والديهم. هنا يجد توماسيوس السبب الذي لا يمكن علاجه للاستعداد المرضي للإيمان بالخرافات والأحكام المسبقة: فالناس تسمع عن أشياء كثيرة قبل أن يرونها، والأطفال يفهمون فكرة الآخرين عن ماهية الأشياء قبل أن يتمكنوا شخصيًا من التفكير حقيقة في هذه الأشياء. الأطفال مطبوعون على الإيمان بسهولة -وهكذا يجب أن يكونوا – والسبب في هذا “أن الأطفال تصل إليهم بجانب الحقائق القليلة ملايين الأخطاء”. ومن هنا فإن التحرر من الأخطاء والخرافات والأحكام المسبقة يمثل، منذ وقت کریستیان توماسیوس، أهم نقاط مشروع التنوير وكان الهدف ألا يثق المرء في الأفكار التي تأتيه من الدرجة الثانية أو الثالثة، وإنما على الحكم الشخصي والتجربة الذاتية. ولكن علينا أن نعي أيضًأ بأن التفكير الذاتي محدود المدى! وليس ممكنًا بشكل كلي شامل وألا لنتج عنه التخلي عن كل شكل من أشكال الحياة الأجتماعية, فلا وجود لتحرر كامل من الأحكام المسبقة, فهي ملازمة للإنسان ولنظرته إلى الأشياء من حوله.
التفكير الذاتي النقي لم يتيسر حتى للتنويريين شديدي الصرامة، حتى جملة ” تحلى بشجاعة أن تخدم تفكيرك الخاص” التي قدم بها كانط التنوير لم تكن نتيجة تفكير ذاتي وإنما هي منقولة، فهي ترجمة لحكمة رومانية قديمة هي “Aude sapere” أي “أستخدم عقلك”

 

المصادر:

1- عشرون تطبيقًا للفلسفة| ينس زونتجن

إعداد: فرح علي
تعديل الصورة ونشر: Abilta E Zeus