التناصّ التاريخي عند بدوي الجبل

 

إنّ للتناصّ عند بدوي الجبل أهميته الخاصة في الكشف عن البنية الفنيّة لقصائده، من خلال متابعة الظاهرة التناصّية، وكشف العلاقات التي تربط النصّ الشعريّ الحاضر بالنصوص الغائبة، وهنا يعمد الخطاب الشعريّ، إلى توجيه قوّة ضاغطة، خفيّة، تدفع المتلقيّ إلى استحضار النصّ الغائب من خلال بعض الإشارات والتضمينات لبعض المفردات والتراكيب، وعلى هذا الأساس سنتناول في هذا الفصل ملامح التناص وأشكاله المختلفة، والعوامل التي ساهمت في تكوينه، والخلفية الثقافية التي نتج عنها، ومدى مساهمة هذه الخلفية الثقافية في إضفاء دلالات واسعة على نصوصه الشعرية.

من الظواهر اللافتة في استخدامات اللغة الشعرية احتواؤها الأدائيّ لمعطيات التاريخ، ودلالات التراث؛ إذ يقوم الشاعر باستلهام الحدث التاريخيّ والشخصيات التاريخية، بغية توظيفها في بنية النصّ، بما تحمله من دلالات وإشارات، تتيح للشاعر وللمتلقّي الاتكاء على ما تفجرّه الشخصيات التاريخية، أو الموقف التاريخيّ من مشاعر ودلالات، تنميّ القدرة الإيحائية للقصيدة.

وتبيّن القراءة التحليلية لقصائد البدويّ، استحضاره للشخصيات التاريخية المهمّة، التي تركت بصمات وإيحاءات خاصة في الوجدان العربيّ، وهنا يسقط الشاعر الماضي على الحاضر، بغية إثراء دلالات النصّ عن طريق التأثير والإيحاء معاً.

أمَّا التناص مع التاريخ عند البدويّ فقد اتّخذ ثلاثة أشكال:

أولاًـ التناصّ بالعلم أو الكنية، ثانياً ـ التناصّ بالدور، ثالثاًـ التناص بالإشارة أو القول.

أولاًـ التناص بالعلم أو الكنية  (1) من هذا المنطلق يعدّ التناصّ بالاسم أو الكنية من أكثر آليات الاستدعاء مباشرة دون التغلغل إلى بنية النصّ، أو المساهمة في تفجير طاقته الدلالية.

ويمكننا أن نتلمسّ جذوراً أولى فيما يشبه التضمينات للأسماء التراثية، ولكنها تبقى مجرد إلصاق صفات تراثية بشخصيات تاريخية، لذلك تظلّ هذه الشخصيات دخيلة على النصّ، لأنها لا تتمثّل الحدث ولا تتفاعل معه، وهذا ما تبدىّ في قصيدته “كافور”:

“كافوُر من بَعْضِ الإماءِ زُبَيْدةُ والخَيْزُرانُ

مَرْوَانُ عَبْدٌ من عَبيدِكَ لا يُزَانُ ولا يُشَانُ

للسّوطِ جَبْهَتُهُ إذا اسْتَعْلىَ وللقيدِ البنانُ

يا مكرم الغرباءِ.. والعربيُّ مُحْتَقَرٌ .. مُهَانُ

تاريخُ قومِي في يديكَ يُدَانُ حَسْبُكَ ما يُدانُ(2)“.

يمنح استخدام الشخصيات التاريخية، “كافور، ومروان، وزبيدة، والخيزران”، إحساساً باهتاً لدى المتلقيّ بفاعلية هذا الإدخال، حيث يوجد هناك فاصل زمني بين شخصية كافور والشخصيات الأخرى “زبيدة، والخيزران، و”مروان”، ممَّا يوحي بأن هناك تباعداً بين هذه الشخصيات، وقد كان إدخالها هامشياً خارجاً عن المستوى البنيويّ العميق للقصيدة، وعلى هذا الأساس يصبح لإدخال هذه الشخصيات دور ضئيل، غير قادر على تمثّل الحدث والارتقاء به إلى فاعلية التناصّ.

لذلك لا بدّ أن نشير إلى أن توظيف أسماء الأعلام التراثية يتمتَّع بحساسية خاصة؛ لأنَّ هذه الأسماء بطبيعتها: “تحمل تداعيات معقدّة، تربطها بقصص تاريخية أو أسطورية، وتشير قليلاً أو كثيراً إلى أبطال وأماكن تنتمي إلى ثقافات متباعدة في الزمان والمكان(3)“. لهذا فإنّ، إدراك القارئ، لدلالة مثل هذه النصوص، التي تقوم بتوظيف أسماء الأعلام التراثية يتوقف على معرفة القارئ بهذه الشخصيات وإمكانية تعيينه لها من خلال السياق(4)

ثانياًـ التناص بالدور(5) ونشير إلى أنّ الاستدعاء بالدور يعتمد غالباً على توظيف الشخصيات التراثية، صاحبة الأدوار الحيّة في الذاكرة الجماعية، مثل أدوار الأنبياء، والقادة، والأبطال، الذين شهد لهم التاريخ على مرّ العصور.

لقد وظّف البدويّ بعض الشخصيات التاريخية من خلال فاعلية الدور، ونسوق على سبيل المثال استحضاره لشخصية النبي “إبراهيم الخليل”ـ عليه السلام من خلال توظيفه المعجزة الإلهية، واستشفافه دورها في شعرنة الموقف الشعريّ وتكثيف إيحاءاته، يقول البدويّ في قصيدته: “من كسعد”:

جَمْرةُ الحربِ عنفواناً ووقدا   “مَنٌ كَسَعْدٍ للنَّدِيِّ احْتِدَامٌ
ردَّها حلمُهُ سلامَاً وبَرْدَا   حممٌ كالجحيمِ مُسْتَعِراتٌ
بل حملتَ الجراحَ غَدْرَاً وصَدَّا   ما حَمَلْتَ الجراحَ داءً مُلِحَّاً
صارَ في الندوةِ الخَصِيْمَ الألَدَّا(6)   حَزَّ في قَلْبِكَ الوفِيّ صَدِيْقٌ

لقد جاءت آلية الاستدعاء ـ في هذه الأبيات ـ مواكبة لغرض الشاعر الدلاليّ، حيث قام باستدعاء شخصية النبيّ “إبراهيم” ـ عليه السلام ـ من خلال فاعلية الدور فقط، بوصفها خلفية تراثية، فالموقف الشعريّ تمثّل الخطاب القرآني في قوله تعالى:

“قُلْنَا يا نَارُ كُونِي بَرْدَاً وَسَلامَاً على إِبْرَاهِيم(7)”. والواضح أن هذا التمثّيل القرآني يتمّ على الموافقة في الصورة مع النصّ القرآنيّ، وقد كان الشاعر موفّقاً تماماً في استدعائه لشخصية النبيّ “إبراهيم” داخل النصّ، من خلال آلية الدور، وتجلّيات الموقف، وهذا ما يعكسه قوله: “حممٌ كالجحيم مستعراتٌ، ردّها حلمه سلاماً وبرداً”.

وهكذا نجد أن الإنتاجية الشعرية ـ عند البدويّ ـ تمثّل نوعاً من استعادة النصّ القديم في شكل خفيّ أحياناً، وجليّ أحياناً أخرى. بل الملاحظ أن كمّاً غير قليل من أشعار البدويّ يعدّ تحويراً لخطابات وأقوال سابقة شعرية أو نثرية؛ وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على ثقافته الواسعة، وتمثّله لعناصر التراث، وفي رأينا أن النضج الحقيقيّ لأيّ مبدع لا يتمّ إلا باستيعاب الجهود السابقة، وهذا ما أشار إليه مايكل ريفاتير: “إنَّ التناص ليس عملية انبثاق نصوص من نصوص سابقة فحسب، بل هو الصورة الوحيدة لأصل الشعر(8)“. ومن هنا نجد أن الارتداد للماضي واستحضاره من أكثر التقنيات فعالية في الإبداع الشعريّ عامّة. وعند البدويّ خاصّة، بوصفه عنصراً يهيمن على دلالة قصائده. ومن الواضح أن التناصّ يتسلط على الموروث العربيّ القديم، ليمتصّ منه بعض نواتحه، التي تتوافق مع حركة المعنى فيه.

ثالثاً ـ التناصّ بالإشارة أو القول:

تتمثّل هذه الآلية من آليات استدعاء الشخصية التراثية، من خلال توظيف الشاعر لبعض الأقوال أو الإشارات، التي تتّصل بالشخصية المستدعاة، فتصبح وظيفة هذه الإشارات وظيفة مزدوجة: 1) الإيحاء أو التفاعل الحرّ مع شفرات النصّ

2) استحضار صورة الشخصية في ذهن المتلقي. ونشير إلى أن وظيفة الإشارات لا تقتصر على ذلك فحسب وإنما “تسهم في تمثيل واقع معقد “كالنص”، من خلال التعريف ببنيته(9).

لقد وظف البدوي هذه الآلية من آليات التناص، من خلال استحضار بعض الأقوال المشهورة لشخصيات إسلامية، حققت لنفسها موقعاً تاريخياً متميزاً، أو لنقل: إن حضورها في التاريخ كان بالغ التأثير في توجهات الأحداث، مثل استدعاء شخصية الخليفة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ من خلال اقتناص جملة شهيرة له، تحمل المضمون المستهدف، بل تحمل معها خلفيتها التاريخية، يقول الشاعر:

من قسم الناس أحراراً وعبدانا

  قل للألى استعبدوا الدنيا لسيفهم

طاغٍ ويرهقه ظلماً وطغيانا

  إني لأشمتُ بالجبار يصرعهُ

هلا تذكرت ـ يا باريس ـ شكوانا(10)

  سمعت باريس تشكو زهو فاتحها

واضح هنا ازدواجية الاستدعاء، حيث تمَّ استحضار القول الشهير، للخليفة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”، ممَّا ولّد انسجاماً كبيراً بين السياقين، فالشاعر استغل الخلفية التراثية لموقف عمر بن الخطاب من خلال قوله ذاك، بغية تثبيت الموقف الثوري الرافض لكل مظاهر لعبودية أو الاستكانة للظلم، وهكذا نجد أن التناص بالقول يستحضر الشخصية القائلة في ذهن المتلقي، ويستحضر الموقف الذي تفجر منه ذلك القول، لذلك يعد التناص بالقول من أكثر آليات التناص إمكانات وقدرات في التعبير والإيحاء والكشف عن روح الشخصية المستدعاة وأهميتها التراثية.

أخيراً نخلص إلى النتيجتين التاليتين:

أولاً ـ إِنّ لغة البدويّ الشعرية حيّة نابضة بثقافة كلّ العصور، ومتمثِّلة لكُلّ الأَطْوَار الشعرية، ممّا جعلها تغدو حَيّة في نفس المتلقِّي، توحِي له كلّ يوم بالجديد والممتع، وتشكّل مفاتيح إيحائية، تكشف عن ثقافة واسعة في توظيف التراث، ممّا جعل قصائده مشحونة بفيض هائل من الدلالات التراثية، إذ استطاعت أن تبني لها وجوداً فنِّيّاً متميّزاً، وتنبئ عن روح جديدة في البثّ الشعريّ، المتكئ على انفساح في الرؤية الفنّيّة، وإحاطة واعية بمعطيات التاريخ، مع تمكّن في الأداء الفنّيّ، الذي يميِّز بنية لغته الشعرية.

ثانياً ـ إنَّ النصّ الشعريّ ـ عند البدويّ ـ نصّ توالديّ، “شبكيّ”، لا يبدأ من بداية محدّدة، وينتهي عند نقطة محدّدة، إنه نصّ التنامي والانفتاح على توالي النصوص الغائبة، وعلى نصوص القراءة المتعدِّدة، إذ نستطيع من خلال التأمّل فيه، ملامسة شفافية اللفظ واتساق المعنى وجماليته وإيقاعه، ومن ثم الولوج إلى منعرجاته ودقائقه الخفيّة. وبذلك تكتمل الوظيفة التناصّيّة، وخلفيتها الشعرية، في الكشف والتبلور والانفتاح، وهذا إن دلّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على حيوية نصوص البدويّ الشعرية، وقدرتها الإيحائية.

تحرير:  آلاء دياب

ملحق الحواشي:

  1. وهو “تناصّ يقوم على مجرّد استدعاء الاسم أو الشخصية فقط، دون ذكر أو بيان هذا الاسم أو هذه الشخصية في النصّ، لذلك يعدّ هذا النوع أقل آليات الاستدعاء فنيّة، بالمقارنة مع آليتي “الدور”، أو “القول“. انظر: مجاهد، أحمد، 1998ـ أشكال التناص الشعري، دراسة في توظيف الشخصيات التراثية،
    ص 115.
  2. الجبل، بدوي،1978م_ الديوان، دار العودة ، بيروت، ط1، ص 148
  3. مفتاح، محمد، تحليل الخطاب الشعري، استراتيجية التناص، ص 65
  4. من هذا المنطلق قد يكون اسم العلم التراثيّ، الذي يستدعيه شاعرنا داخل النصّ غير مشهور، بل قد يكون مجهولاً تماماً لدى القارئ، ممَّا يمثلّ عقبة في سبيل التلقيّ. لذلك يجب الإشارة إليه في الحاشية، ليدرك المتلقيّ أبعاد هذه الشخصية ودورها في النصّ، وهذا ما أشار إليه البدويّ في قصيدته، “ماك سويني” حين عرّف به فقال: “ماك سويني هو محافظ مدينة كورك الايرلندية، اعتقله الإنكليز بقضية وطنية، فأضرب عن الطعام احتجاجاً على طغيانهم حتّى وافته المنية”. انظر: الجبل، بدوي، الديوان، ص 449
  5. ويقصد به التناص الذي يقوم على الدور الذي لعبته الشخصية، دون التصريح باسمها داخل النص بحيث: “يمكن للمبدع توظيف الشخصية التراثية المستدعاة، من خلال آلية الدور، عبر تقنيات متعدّدة مثل المزج والتداخل بين ما هو تراثيّ، وما هو حديث، أو خلق رؤية، جديدة، يفسّر من خلالها الدور القديم، أو مخالفة الدور القديم جملة”. انظر: مجاهد، أحمد، أشكال التناص الشعري، ص 88
  6. الجبل، بدوي، ص 227
  7. القرآن الكريم: سورة الأنبياء، الآية 69
  8. شولز، روبرت، 1994 ـ السيماء والتأويل، تر: سعيد الغانمي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1 ، ص 89 . وينظر: ريفاتير، دلائليات الشعر، ص 230
  9. جيرور، بيير: 1988 ـ علم الإشارة، السيميولوجيا، تر: منذر عياشي، دار طلاس للدراسات والنشر، ط1، ص 94
  10. الجبل، بدوي، الديوان، ص 82ـ 83

المصادر والمراجع:

  1. ظواهر أسلوبية في شعر بدوي الجبل، عضام شرتح، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2005م