الوحدة العضوية في قصيدة (لأنّي غريب) لـ بدر شاكر السياب

الوحدة العضوية في قصيدة (لأنّي غريب) لـ بدر شاكر السياب

لأنّي غريب

لأنّ العراق الحبيب

بعيد و أني هنا في اشتياق

إليه إليها أنادي : عراق

فيرجع لي من ندائي نحيب

تفجر عنه الصدى

أحسّ بأني عبرت المدى

إلى عالم من ردى لا يجيب

ندائي

و إمّا هززت الغصون

فما يتساقط غير الردى

حجار

حجار و ما من ثمار

و حتى العيون

حجار و حتى الهواء الرطيب

حجار يندّيه بعض الدم

حجار ندائي و صخر فمي

و رجلاي ريح تجوب القفار

تعتمد الوحدة العضوية أساساً على القصيدة الغنائية، ومن ركائزها:

الشكل الآلي:  الخيال يبدع البناء العضوي ، والتوهم يصنع الشكل الألي ، ويكون البناء العضوي طبيعياً و نموه داخلي، أما الشكل الألي فمصنوع و مفروض على العمل الفني من خارجه. فالشكل العضوي ينبع من باطن العمل الفني لا من قوانين جاهزة تفرض عليه من خارجه. من هنا كان شكل قصيدة ” لأني غريب” شكل عضوي خاص متلائم مع طبيعة القصيدة. فقد أخذت القصيدة شكلاً حلزونياً، وتدفقت على شكل آفاق شعورية للتجربة الشعرية .و بدأت القصيدة ببذرة صغيرة تمثل إحساساً داخلياً أما نموها فعفوي تدريجي.

الوحدة العضوية:  في قصيدة (لأني غريب) يشعر المتلقي بإحساس عام يطغى على القصيدة , إحساس مهيمن لوّن صورها وموسيقاها ولغتها وأفكارها بلونٍ واحدٍ نابعٍ من موقف نفسي، يعانيه الشاعر لحظة انطلاقه بكتابة  العمل الفني. (وهذا أساس الوحدة العضوية التي تقوم على التجربة و تقول بهيمنة الإحساس الواحد على أجزاء القصيدة)، إحساس يصل ليجعل ما هو ذاتي عند الشاعر موضوعي عند المتلقي.

ففي القصيدة  يولد كل سطر السطر الذي يليه :

لأني غريب /  لأن العراق الحبيب / بعيد و أني هنا في اشتياق….

و تنجب كل لفظة ما بعدها من ألفاظ : غريب  – الحبيب – اشتياق – عراق – نحيب_ الصدى – المدى – الردى

في هذه القصيدة لا يمكن أن نبدل بيت ببيت أو جملة بجملة أو لفظة بلفظة.

الوحدة العضوية وحدة تركيبية: ناشئة عن تعدد في العناصر و المستويات، و التعدد في العناصر، يولد تعدداً في العاطفة و الصورة و اللغة و الإيقاع و غيرها ، و التعدد في المستويات أي تعدد في مستويات التصارع و التجاذب بين الوعي و اللا وعي من جهة و بين الذات و الموضوع من جهة أخرى .

التعدد في العاطفة: القصيدة وحدة نفسية تنبع من داخل الشاعر نتيجة لتجربة عميقة ذات مغزى لذلك فأنغام اليأس تسيطر على القصيدة و تخيم عليها صور الموت حتى صور الحياة لاتسلم من صبغة اليأس،  فأتت القصيدة لتعبر عن وجوه متضاربة أحياناً و متفقة أحياناً مع العاطفة الضمنية للشاعر.

التعدد في الصورة :نشأت الصور في القصيدة من ائتلاف عناصر كانت قبلاً مختلفة، ثم اتصلت في توافق و انسجام، فاتخذت لها طبيعة جديدة وحياة جديدة، وأصبح لها كيان عضوي جديد قادر على التعبير.

يتساقط الردى – العيون حجار – حجار ندائي – صخر فمي – رجلاي ريح

  • لابد في العمل الفني من أن تكون الصورة مصحوبة بالعاطفة التي تقوم بصهر المتناقضات و توحيدها بعد أن تصبح الذات و الموضوع و الروح و المادة شيئاً واحداً.
  • كانت الصور – في مجملها – إيحائية أي أنها تقول أكثر مما فيها و وظيفتها أن ترتبط فيما بينها و تربط المتلقي بالشعور العام السائد في القصيدة و المسيطر على الشاعر .
  • و بذلك تصبح كل صورة بمثابة الخلية الحية النامية التي تؤلف مع غيرها من الخلايا كلاً عضوياً، فهي ليست مقصودة لذاتها إنما تنبع من الحس الداخلي و من تجربة الشاعر النفسية.

التعدد في اللغة

وحدة لغوية تفاعلية قامت على صهر عناصرها بوساطة الخيال الشعري القادر على تذويب المتناقضات و توحيدها ، بحيث يكون كل جزء منها متلائماً و متصلاً  بسائر الأجزاء و كل شيء فيها له وجود من أجل نفسه و وجود من أجل الكل الذي هو جزء منه، فاللغة الشعرية هي وليدة العاطفة و بنت الانفعال في البنية العضوية. والقصيدة بألفاظها و جملها كانت المرآة التي عكست كل ما يريد الشاعر إخفائه؛ فجاءت التراكيب موحية معبرة صُبغت بماء القصيدة.، فالقصيدة ناضجة في وحدتها اللغوية القائمة على التكثيف.

 

التعدد في الإيقاع: يؤكد كولورج على ضرورة الوزن في الشكل العضوي، إذ إنّ الوزن من أهم ملامح الوعي بالشكل    العضوي، فالتشكيل الموسيقي في القصيدة خاضع خضوعاً مباشراً للحالة النفسية التي يصدر عنها الشاعر،

فقد شاكلت القصيدة بين القافية وحرف الروي، فجُعل حرف الروي صوتاً متنقلاً، يتغير وفقاً لما يحتاجه الإطار الموسيقي العام للقصيدة، وهذا ما حقق للقصيدة وحدة الأداء و ارتباط أبيات القصيدة ارتباطاً موسيقياً عضوياً، وأصبحت القافية بذلك تعتمد على الحاسة الموسيقية لدى الشاعر.

إذن، فعناصر القصيدة تصب دفعةً واحدةً بعاطفتها و صورها و لغتها و موسيقاها و إيقاعها

التعدد في المستويات: تسير القصيدة في مستوياتها المتعددة وفق خيط من الوعي و من وحدة العاطفة، فالوعي عنصر من عناصر القصيدة العضوية، أي أن الشاعر يدرك هذا الوعي لكن إدراكه لايجعله يفرض مخططا أو بناء محدداً على القصيدة .  والوعي العضوي هو أن تنبع الرؤيا الشعرية من باطن القصيدة و من شكلها العضوي فنراها في كل جزء من أجزائها و من عناصرها، و كان كولورج دوماً يعترف بعنصر الإرادة الواعية في نظم الشعر. فالقصيدة وحدة إبداعية و كمالها ليس في عناصرها و مستوياتها إنما في هيئتها؛ لذلك، تمتعت قصيدة ” لأني غريب” بوحدة نفسية تقوم على مسارات تتلاقى و تتصارع و تتفاعل منها :

المستوى الزمني تجري القصيدة ضمن مستوى تتداخل فيه الأزمنة و تتشابك بوساطة خيوط من التداعيات و الذكرى و الرؤى و التجارب.

بعيد و أني هنا / أنادي فيرجع / أحس بأني عبرت/  هززت فما يتساقط /

مستوى السكون و الحركة تضج القصيدة بحركةٍ خامدةٍ

أنادي / يرجع / تفجر / أحس / هززت / يتساقط / تجوب

ندائي / الصدى / العيون / الدم / رجلاي / ريح

مستوى الحياة و الموت لكن مسار الموت هو الأقوى و يلتقي المساران و يتفاعلان في أكثر من نقطة لكن الموت ينتصر و تستسلم الحياة شيئاً فشيئاً في أحضان السكون و الصمت

و إما هززت الغصون / فما يتساقط غير الردى

وبعد، ثمة مساران في النص المسار الذاتي و المسار الاجتماعي ، أمّا المسار الاجتماعي فهو ضعيف يبرز ضمنياً، لكنه سرعان ما يعود إلى الاختفاء.

و أخيراً – إضافة إلى ما ذُكر-

  • وحدة الأثر الجمالي الذي تتركه القصيدة على قارئها
  • تتحقق الوحدة العضوية بما في القصيدة من صدق فني لا صدق واقعي.
  • التسلسل الفني لا يتحقق إلا عن طريق الإيحاء بالصور الفنية و الخيال المحكم.

تحرير ودراسة: آلاء دياب