عصر التنوير الأوروبي

عصر التنوير الأوروبي

 

شكلت أوروبا بفضائها الثقافي والجغرافي خارطة متنوعة لانتشار فكر وفلسفة الأنوار(1) ، غير أن بعض الآراء تعتبر الفضاء الثقافي الفرنسي أكثر هذه الفضاءات نشاطاً وحيوية، هذا ربما لأنه واكب ظهور البرجوازية كنظام اقتصادي وسياسي واجتماعي، مما جعل المجتمع الفرنسي يصل إلى احتضان مقولات الفكر الأنواري التي انبثقت من فكرة الإصلاح الديني وانجازات عصر النهضة قبل المجتمعات الأخرى، مخترقة تلك الفضاءات المعرفية للثقافة الأوربية، ولعلَّ الفيلسوف الفرنسي (مونتسكوMontesquieu 1689-1755) و(فولتير Voltaire 1694-1778) و(جان جاك روسو Jean Jacques Rousseau 1712-1778 ) و (دينيس ديدرو Denis Diderot 1713-1784 ) كانوا السباقين إلى تلقف أفكار عصر التنوير، بل كانت مهمتهم الأسمى تتمثل في تغيير النظرة إلى الإنسان والمجتمع، والحرية انطلاقاً من أسس عقلانية مادية، تمجد العقل وتطرح فكرة الازدهار والتطور والتقدم في ظل (النزعة الفردانيةIndivudisme   )التي تعترف بالحرية المطلقة للفرد في ممارسة حياته الشخصية وتنظيم علاقاته الاجتماعية(2).  والمقصور بالتنوير ” الانتقال المجتمعي في القارة الأوربية في القرن الثامن عشر من حال ظلمات التفكير القديم والتقليدي، والذي كان أسير التفكير الديني المسيحي، وغيبياته، وتجاوز مقولات الكتاب المقدس وسلطة النص الديني، إلى تفكير جديد يسوده التفكير العقلي المستقل (3) “؛ لذلك كان التنوير مشروعاً أو  Enterprise يمثل مجموعة من الوقائع السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية، نظام حقيقة وشكل من أشكال التفلسف ونمط من أنماط المعرفة ومشروع لعقلنة هذه المعرفة والممارسة على السواء. اختيار معين لاستخدام العقل في التفكير والقول والفعل، وتعزيز القدرة على الحرية والاستقلالية، إلا أنَّ هذا كله لن يتم بمعزل عن علاقات السلطة ” المتضمنة في تكنولوجيات معينة، حقول معرفية، سواء كانت فردية أو جماعية، عمليات من الاستنظام التي كانت تمارس باسم سلطة الدولة، وحاجيات مجتمع أو مناطق سكنية (4) “. وبوصفه موقعاً للذات يعد التنوير موقفاً معرفياً وسياسياً وأخلاقياً، بعبارة أخرى، الذات المنتجة لخطاب التنوير تشكلت من خلال هذا الخطاب في حد ذاته، أي في المعرفة التي أنتجتها، كما أنها تشكلت ذاتاً تمارس أو تخضع لعلاقات سلطة معينة، وتشكلت أيضاً ذاتاً أخلاقية من خلال طريقة الفعل. وما يضمن استمرار هذا الموقف هي أنظمة الممارسة المقترنة ” بالفعل و طريقة الفعل، أي أشكال العقلانية التي تنظم طريقة فعل الأشياء (وهذا ما يمكن تسميته بالجوانب التكنولوجية) والحرية التي تمكننا من الفعل داخل أنظمة الممارسة هذه، ضمن ردود الفعل تجاه ما يفعله الآخرون، تعديل قواعد اللعبة، الوصول إلى موضع معين (وهذا ما يمكن تسميته بالجانب الإستراتيجي في تلك الممارسات (5) “. فالمصطلح كان في البداية متداولاً في الحقل الديني، أي أنه كان ” ديني المنشأ قبل أن يتعلمن على يد الفلاسفة في عصر العقل، أي في القرن الثامن عشر بالذات(6) “، وقد كان يعني في النصوص التوراتية و نصوص الإنجيل المتداولة ما هو عكس الظلمات ، لقد كان مصطلح التنوير ” طيلة العصور الوسطى في كتابات اللاهوتيين المسيحيين والصوفيين وأصحاب التقى و الورع ، وهو يدل على الوحي المنير أو الإشراقي الذي يضيء للإنسان طبيعته (7)” ، ثمَّ راح هذا المصطلح ينزع عنه عباءته الدينية تدريجياً؛ لينتظم ضمن حركية جديدة بأفق معرفي جديد، هو أفق الفلسفة العقلية مع ديكارت وبعده يُذكر الفيلسوف )لايبينتز Leipintz  1646_1617)، هذا ما يرجح الاعتقاد أنَّ فكر حركة الاستنارة لم يكن بتاتاً فكراً مستقلاً بذاته ينم عن جوهر معرفي محايد ومخصوص به بنيوياً، إنَّما كان مكملاً لجوهر عصر النهضة وملتحماً به واستمراراً لفكره، وإلا ما الذي جعل (تودودرف Todorov) يعتقد أن ” الأنوار عصر نهاية مطاف، عصر حوصلة وتأليف لا عصر تجديد جذري، فالأفكار الكبرى للأنوار لا تعود إلى القرن    XVIII وهي وإن لم تنحدر من العصر القديم تحمل على الأقل آثار أواخر العصر الوسيط وعصر النهضة و العصر الكلاسيكي (8) “؟

إذن، تمكّن فلاسفة عصر الأنوار من مساءلة المنظومة التقليدية، التي أعيت أوروبا، وكانت تقضي عليها، فانتقدوا الأسس الدينيّة، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصاديّة، التي قام عليها المجتمع التقليدي القديم.

  1. ففي المستوى السياسيّ، انتقد فلاسفة عصر الأنوار الملكية المطلقة، ورفضوا مبدأ كون الملك ظلّ الله في الأرض، وسيّد رعاياه، باستطاعته أن يحكمهم كيفما يشاء، ومثلما يشاء. وقد طالبوا، خاصّة، بملكيّة ذات (صلاحيات محدودة Monarchie limite’e) وطالب مونتسكو أيضاً، بضرورة الفصل بين السلطات، في حين نادى جون جاك روسو بإعطاء السيادة للشعب؛ لأنه مصدر كل السلطات، وما الدولة إلا مجرّد خادم لمصالحه(9).
  2. أما في المجال الديني، فقد حارب فولتير التعصّب واللاتسامح، اللذين سادا أوروبا، طيلة عقود طويلة، وقد وجّه نقده، خاصّةً، إلى الكنيسة الكاثوليكية، منادياً بحرية الاعتقاد، والإيمان، ودعا الكثير من فلاسفة التنوير إلى توظيف التحليل العلميّ للظواهر الكونيّة عوضاً عن التفسيرات الدينيّة التي كانت سائدة.
  3. وفي المجال الاجتماعيّ، طالب فلاسفة عصر الأنوار بالحريّة والمساواة أمام القانون الوضعي، كما طالبوا بتعميم دفع الضرائب، وربطها بالدخل الفرديّ، وأكّدوا ضرورة إلغاء العبوديّة، والحدّ من امتيازات النبلاء، واضعين تراتبيّة المجتمع القديم موضع المساءلة.
  4. في المجال الاقتصاديّ، ناصرت فلسفة الأنوار حريّة الإنتاج، والتبادل التجاريّ، ورفضت القيود الجمركيّة، التي كانت تحدّ من تدفّق السلع، مُوجّهةً لومها إلى الدولة، وأجهزتها الرقابيّة، التي تحدّ من حريّة التجارة والمبادرة. وبصورة عامة، قامت فلسفة عصر الأنوار على جملة من القيم الرئيسة التي يمكن تلخيصها وفق النقاط الآتية:
  5. قيمة (العقلانيّة Rationalisme) :هي قيمة القيم في فضاء الحداثة، وتطلق على الفكر، الذي يحتكم إلى الاستنتاج العقلي، أو المنطق، مصدراً للمعرفة أو للتفسير، وبمعنى أدقّ؛ هو المنهج أو النظرية الذي يتّخذ من العقل والاستنباط معياراً للحقيقة، بدلاً من المعايير الحسيّة. فالعقلانية هي المذهب الفكري، الذي يجعل العقل المصدر الوحيد الممكن للحصول على المعرفة الصحيحة، ويمكن التأريخ لهذه القيمة منذ الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت.
  6. قيمة (الحريّة Liberte’) : هي القيمة، التي تضمن قدرة الإنسان الحداثيّ على التطوّر والإبداع، وتؤكّد حقّه في تقرير مصيره، وشؤونه المدنيّة العامّة، دون إكراه أو تقييد، فلا سلطان على العقل في مجتمع الحداثة إلا العقل نفسه.
  7. قيمة (الحركيّة التاريخيّة العقلانية historicisme rationaliste 🙁وهي قيمة رئيسة تثبت أن الحداثة قامت على معقوليّة التحوّل، وخلصت إلى تصور حركيّ للمجتمع ينمو ويتطوّر ويراكم الخبرات.
  8. قيمة (العلمانيّة ‘laÏcite): من أهم القيم في المجتمع الحداثي، من خلالها يتم فصل السلطة السياسية عن المؤسّسة الدينيّة، والتزام الدولة بعدم التدخّل في الشؤون الدينيّة لمواطنيها، بحيث تصبح (المواطنة ‘Citoyennete) هي العلاقة الأساسية بين المواطن ودولته، أمَّا المسائل الدينيّة فهي ممارسات فردية، لا يحقّ لأيّ جماعة في الدولة العلمانيّة أن تفرض لونها الدينيّ على بقيّة أفراد المجتمع، ولا أن تؤثر انطلاقاً من دينها؛ لأنَّ العلاقة الرئيسة في هذا المجتمع هي علاقة سياسيّة قائمة على المساواة بين جميع أفراده؛ لذلك لن تثمّن العلمانية إلا في مجتمع (ديمقراطي (10) Democracy )، يكفل حقوق الأفراد في مجتمع متوازن.

صفوة ما يمكن أن يستنتج ممّا سلف أنّ هذه القيم عملت على تسريع الحداثة في المجتمع الغربي، فأثّر ذلك في طبيعة حياة الأوروبي، التي سادت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وقد تجلّى هذا التغيير بعد ازدهار الثورة الصناعيّة، التي أطاحت بطبقات المجتمع القديم التقليدية، وأحلّت مكانها طبقتي (البرجوازية)و(البروليتاريا (11))، حيث قام على كاهلهما معاً التحديث السياسي والفكري (12). وقد تركت هذه القيم آثارها من خلال تراكم مظاهر الحداثة ، التي طبعت العالم الغربي بمَيسمها.

تحرير: آلاء دياب

الحواشي:

  • (حركة الاستنارة أي عصر التنوير Enlightenment Peried): ظهر في القرن الثامن عشر في فرنسا وألمانيا اتجاه سياسي واجتماعي حاول ممثلوه أن يصححوا نقائض المجتمع القائم ، وأن يغيروا أخلاقياته وأساليبه وسياسته وأسلوبه في الحياة ، بنشر آراء في الخير والعدالة والمعرفة العلمية . ويكمن في أساس التنوير الزعم المثالي بأن الوعي يلعب الدور الحاسم في تطور المجتمع والرغبة في نسبة الخطايا الاجتماعية إلى جهل الناس وافتقادهم إلى ثقتهم بطبيعتهم  انظر: انظر:  الدكتور عبد الوهاب المسيري_ الدكتور فتحي التريكي، الحداثة و ما بعد الحداثة: 355.
  • (الفردانية Indivudisme  ) : ” مبدأ من مبادئ الأيديولوجيا السياسية الاجتماعية يقوم على الإعتراف بالحقوق المطلقة للفرد، وحرية الفكر واستقلاله عن المجتمع والدولة “. انظر: حسن الكحلاني، الفردانية في الفكر الفلسفي المعاصر ، القاهرة، 2004م، الطبعة الأولى، مكتبة مدبولي، القاهرة ، الطبعة الأولى، 2004م:25.
  • عبد المعطي سويد، هياكل التنوير والحداثة المبتورة في العالم العربي، القاهرة، 2006م، الطبعة الأولى، مؤسسة الانتشار العالمي:15.

(4) ) Michel, Foucault.(1984) What Is Englightenment : P.48

(5)  Michel, Foucault.(1984) What Is Englightenment : P.48

(6) رولان مورتييه: نقلاً عن : هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوربي، لبنان، 2005م، الطبعة الأولى، دار الطليعة للطباعة والنشر:139.

(7)  يورغن هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة : فاطمة الجيوشي، دمشق، 1995م ، الطبعة الأولى، منشورات وزارة الثقافة: 15.

(8)  تزيفيتان تودوروف، روح الأنوار، ترجمة:حافظ قويعة، تونس، 2007م، الطبعة الأولى، دار محمد علي للنشر:09

(9)  للاطّلاع على مبادئ عصر الأنوار وقيمه الكبرى، انظر مثلاً : معجم لاروس ( ( Larousse  الإلكتروني، العنوان الإلكتروني: http://www.larousse.fr/encyclopedie/divers/siecle-des-Lumieres.

(10)  (الديمقراطية _حكومة الشعبDemocracy): معناها المعرفي هو حكومة الشعب، وهي بمدلولها العام تتسع لكل مذهب سياسي يقوم على حكم الشعب لنفسه، باختياره الحر لحكامه، وبخاصة القائمين منهم بالتشريع ، ثم برقابتهم بعد اختيارهم . ولما كان إجماع الشعب مستحيلاً ، وبخاصة في أمور السياسة و الحكم ، فإن حكومة الشعب قد أصبحت تعني عملياً حكومة الأغلبية، كنظام متميز عن نظام الحكم الفردي و نظام حكومة الأقلية. انظر: الدكتور عبد الوهاب المسيري_ الدكتور فتحي التريكي،  الحداثة و ما بعد الحداثة: 351.

(11)  هربرت ماركيوز على سبيل المثال، يعتبر أنَّ البروليتاريا لم تعد قادرة بعد على ممارسة التفكير السالب في الشروط المعاصرة، نظراً لما طالها من وسائل التدجين والاحتواء، إلا أنّه لازال متفائلاً إلى حد كبير بالقوى الرافضة التي لم تستطع الأيديولوجية القائمة احتوائها. أعني أنَه إذا كانت البروليتاريا أو القوة التقليدية للثورة والنفي فقدت ثوريتها؛ لأنَّها أصبحت جزءاً من النظام القائم، وتخلت عن دورها التاريخي منذ أن قبلت الاشتراك في (اللعبة البرلمانية le jeu parlementaire) ، فإنَّ القوى النافية تصبح هي القوى التي لم تندمج بعد في إطار هذا النظام العام، والتي لم تنطوِ داخل مؤسساته السياسية، والتي ترفض الاشتراك في قواعد اللعبة البرلمانية المعمول بها في النظام القائم. فهذه القوى يمكن أن تكون داخل النظام الرأسمالي، لكنَّها غير مندمجة فيه. كما يمكن أن تكون خارجه، أي في الدول النامية أو دول العالم الثالث. ويعبر ماركيوز عن خصائصها فيقول:” وهذه المعارضة غير مزودة بأساس طبقي تقليدي، وهي تتراءى كأنَّها عصيان سياسي، وغريزي  وأخلاقي دفعة واحدة، تلك ملامح غير مستقيمة، تكيف إستراتيجيتها وتمدد ساحة عملها، وهي لا توقر الديمقراطية الليبرالية ولا البرلمانية القائمة، وتحمل على جملة تنظيم المجتمع“. انظر: هربرت ماركيوز ، نحو ثورة جديدة ، ترجمة عبد اللطيف شرارة، بيروت، 1971م، الطبعة الأولى، دار العودة:105.انظر أيضاً : هربرت ماركيوز ، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت، 1988م، الطبعة الأولى، دار الآداب: 28 .

(12)  انظر: تيمونز روبيرتس_ ايمي هايت، من الحداثة إلى العولمة، رؤى ووجهات نظر في قضية التطوير، والتغير الاجتماعي، ترجمة : سمر الشيشكلي، الكويت، تشرين الثاني _كانون الأول 2004م، عالم المعرفة ، العدد 309_310، 34 وما بعدها.