من الداخل إلى الخارج، كيف يكوّن الدماغ الذكريات الحسية

 

 

دراسة جديدة تحدِّد منطقة من المهاد كمصدر رئيسي لتشفير التجارب السابقة في القشرة المخية الحديثة (جزء من القشرة المخية يهتم بالبصر والسمع في الثدييات، ويُعتبر أحدث جزء متطور من القشرة).
يقوم الدماغ بتشفير المعلومات التي تجمعها حواسُّنا. ومع ذلك، لفهم البيئة المحيطة والتفاعل معها بشكلٍ بنّاء، فإنَّ هذه الإشارات الحسية تحتاج أن تُترجم في سياق تجاربنا السابقة وأهدافنا الحالية.
القشرة المخية الحديثة هي أكبر منطقة في دماغ الإنسان، توسَّعت وتباينت بشكلٍ هائل خلال تطور الثدييات، ويُعتقد أنَّها تتوسط في العديد من القدرات التي تميِّز البشر عن أقرب أقربائهم. علاوةً على ذلك، تلعب الاختلالات في هذه المنطقة أيضًا دورًا رئيسيًا في العديد من الاضطرابات النفسية.
جميع الوظائف الإدراكية العليا للقشرة المخية الحديثة يتمُّ تمكينها من خلال الجمع بين تيّارين بارزين من المعلومات، تيّار “من أسفل إلى أعلى” يحمل الإشارات من البيئة المحيطة، وتيار “من أعلى إلى أسفل” ينقل المعلومات المولَّدة داخليًا والتي وظيفتها تشفير تجاربنا السابقة وأهدافنا الحالية.
يقول العالِم الدكتور يوهانس ليتزكوس: “لقد بيَّنت عقودٌ من البحوث كيف يتمّ معالجة المدخلات الحسية من المحيط الخارجي. ومع ذلك، فإنَّ معرفتنا بالمعلومات المولَّدة داخليًا لا تزال في مهدها. هذه واحدة من أكبر الفجوات في فهمنا لوظائف الدماغ العليا كالإدراك الحسّي”، حفَّز هذا الفريقَ على البحث عن مصادر هذه الإشارات من أعلى إلى أسفل. “اقترح العديد من العلماء، ومن خلال تجارب العمل السابق، أنَّ الطبقة العليا من القشرة المخية الحديثة من المُحتمل أن تكون موقعًا رئيسيًا يتلقّى مدخلات تحمل معلومات من أعلى إلى أسفل. أخذُ هذا كنقطة بداية سمح لنا بتحديد منطقة من المهاد – منطقة دماغية مغروسة بعمق داخل الدماغ الأمامي – كمصدر مرشَّح رئيسي لمثل هذه المعلومات الداخلية.”
بدافعٍ من هذه الملاحظات والبحوث، ابتكرت الدكتورة إم. بيلين باردي M. Belén Pardi منهاجًا مبتكرًا مكَّنها من قياس ردات الفعل للمشابك المهادية المفردة في القشرة المخية الحديثة للفأر، قبل وبعد نموذج التعلم.
“النتائج كانت واضحةً جدًا” تتذكر باردي، “في حين تمَّ ترميز المحفزات المحايدة بدون صلة من خلال استجابات صغيرة وعابرة في هذا المسار، عزَّز التعلم نشاطها بقوة وجعل الإشارات أسرع وأكثر استدامة بمرور الوقت.”
يُشير ذلك إلى أنَّ المشابك المهادية – تقاطع بين خليتين عصبيتين، يتكون من فجوة دقيقة تمرّ عبرها النبضات عن طريق انتشار ناقل عصبي – في القشرة المخية الحديثة تقوم بتشفير التجربة السابقة للحيوان.
يقول ليتزكوس: “كنّا واثقين بأنَّ هذا هو الحال عندما قارنا قوة الذاكرة المكتسبة بتغيُّر نشاط المهاد: كشف هذا عن وجود علاقة إيجابية قوية، ممّا يشير إلى أنَّ هذه المدخلات من المهاد تُرمَّز بشكلٍ بارز إلى الملاءمة السلوكية المكتسبة للمحفزات.”
ولكن هل هذه الآلية انتقائية لهذه الإشارات ذات الصلة بالذاكرة من أعلى إلى أسفل؟ من الممكن أن تكون المحفّزات الحسية ذات صلة بسبب ما تعلمنا ربطه بها، ولكن قد يعود السبب أيضًا لخصائصها الفيزيائية. على سبيل المثال، الأصوات الأعلى هي الأسرع في جذب انتباه البشر والحيوانات. مع ذلك، فهي وظيفة ذات مستوى منخفض لا علاقة لها بالتجربة السابقة.
تقول الدكتورة باردي: “ما يُثير الاهتمام، أنَّنا وجدنا آليات تشفير مختلفة جدًا ومعاكسة لهذا الشكل التصاعدي من الارتباط.”
نظرًا لأهميتها المركزية، خمَّن العلماء أنَّ الطريقة التي يتمّ بها استلام هذه الإشارات في القشرة المخية الحديثة يجب أن تكون منظَّمة بشكلٍ صارم.
تناولت الدكتورة باردي وزملاؤها هذا الأمر في تجاربٍ أخرى، جنبًا إلى جنب مع النمذجة الحاسوبية بالتعاون مع مختبر الدكتور هينينج سبريكيلر وفريقه في Technische Universität Berlin. حدَّدت النتائج آلية مسبقة غير معروفة تستطيع وبِدقَّة ضبط مسار المعلومات على طول هذا المسار، وتحديد نوع متخصص من الخلايا العصبية في الطبقة العليا من القشرة المخية الحديثة كديناميكة منظِّمة لعبور هذه الإشارات من أعلى إلى أسفل.
أخيرًا، يستنتج ليتزكوس: “تكشف هذه النتائج عن المدخلات المهادية للقشرة المخية الحديثة الحسية كمصدرٍ رئيسي للمعلومات حول التجارب السابقة المرتبطة بالمحفزات الحسية، هذه الإشارات من أعلى إلى أسفل مضطربة في عدد من اضطرابات الدماغ كالتوحد والانفصام، ونأمل بأنَّ النتائج الحالية ستُتيح أيضًا فهمًا أعمق للتغيرات غير القادرة على التكيف التي تكمن وراء هذه الظروف القاسية.”
ترجمة: زهراء ثائر
تدقيق: فاطمة الزهراء جبار
تعديل الصورة: فرات جمال
المصدر: هنا